المنظومة التكاملية لعلوم القرآن الكريم
الجزء الأول- القرآن
عن موقع الدكتور خالد العبيدي
توطأة
لعل المتبحرين في علوم القرآن الكريم يجدون أنه يرسم لوجة تكاملية من علوم شتى بدءاً من فهم معنى وأسلوب نزوله وتلقينه وأسلوب قراءته وتدبره، وليس انتهاء بأصناف فنونه وإعجازه.
ونظراً لأهمية توضيح العلوم القرآنية في موضوع فهم العلوم الإعجازية المختلفة فقد ارتأينا أن نخصص مسلسلاً كامل نلخص فيه بعض العلوم القرآنية وتكاملها ووحدتها بدءاً من القرآن أسمائه وصفاته وتنزلاته، الوحي، مروراً بعلوم القرآن الكريم كأسباب النزول، المحكم والمتشابه، المكي والمدني والصيفي والشتائي، مراحل جمع القرآن الكريم، علم القراءات والتجويد، علوم التفسير والتأويل وغير ذلك.
القرآن الكريم هو معجزة الإسلام الخالدة، أنزله الله تعالى على محمد – صلى الله عليه وسلم – ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، فكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يتلقاه من جبريل – عليه السلام – ويبلغه إلى الصحابة – رضوان الله عليهم – وهم من العرب الخلص، فكانوا يفهمونه بسليقتهم، وإذا التبس عليهم فهم آية من الآيات القرآنية رجعوا بها إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسألوه عنها.
فكان يجيبهم على أسئلتهم، كما ورد في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان وغير هما عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.....} سورة الأنعام: آية 82 قال : شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه ؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: { إن الشرك لظلم عظيم } سورة لقمان آية: 13 إنما هو الشرك )).
وختم الله تعالى بهذا القرآن الكتب السماوية التي أنزلها على رسله، كما ختم بمحمد –صلى الله عليه وسلم – الأنبياء والرسل وامتاز القرآن عن سائر الكتب السماوية السابقة بأن تولى الله بنفسه حفظه وصيانته فلا يأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتطرق إليه تحريف ولا تبديل قال الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) سورة الحجر آية: 9. وقال تعالى: ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد ) سورة فصلت آية: 42. وقد جاء القرآن الكريم وافياً بجميع مطالب الإنسانية، حيث عالج مشكلاتها في شتى مرافق الحياة الروحية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية علاجاً حكيماً يتناسب مع الفطرة، لأنه من لدن حكيم خبير. وقد أتم الرسول – صلى الله عليه وسلم – تبليغه إلى أصحابه ومن ثم إلى الناس جميعاً.
القرآن
تعريف القرآن لغة واصطلاحاً
القرآن لغة: قرأ تأتي بمعنى الجمع والضم. والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، والقرآن، في الأصل كالقراءة، مصدر قرأ قراءة وقرأنا. قال تعالى: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [ القيامة: 17- 18 ]. أي قراءته. والقرآن على أصح الآراء مصدر على وزن فُعلان، كالغُفران والشكران.، بمعنى القراءة. مصدر على وزن فعلان بالضم
القرآن اصطلاحاً: هو كلام الله تعالى المعجز بلفظه ومعناه، المنزل على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المتحدى بأقصر سورة منه.
وهناك تفصيل آخر يعرف القرآن اصطلاحاً بأنه: هو كلام الله القديم، المعجز، المُنَزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، المكتوب بالمصاحف، المنقول بالتواتر، المُُتعَّبد بتلاوته . ومعنى ذلك :
كلام الله القديم (العقيدة )، المعجز أي أن القرآن معجز بجملته ، كما أنه معجز بأي سورة منه ، ولو كانت أقصر سورة منه ، ولو عُرِّف القرآن بهذه الصفة " الكلام المعجز " لكفى ذلك لتمييزه والتعريف به . قال تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } [ الإسراء : 88 ]. ومعنى التواتر (مصطلح الحديث). وأما معنى المتعبد بتلاوته أي أن مجرد تلاوة القرآن عبادة يثاب عليها المؤمن .
الفرق بين القرآن والحديث النبوي والحديث القدسي
يفرق العلماء بين القرآن الكريم والحديث النبوي بأن القرآن، لفظه ومعناه من عند الله، أما الحديث النبوي فمعناه من عند الله تعالى ولفظه من النبي – صلى الله عليه وسلم – على الرأي الصحيح .
والفرق بين القرآن والحديث القدسي بأنهما وإن كان كل منهما لفظه ومعناه من عند الله على الصحيح إلا أن الحديث القدسي لم يقصد بلفظه التحدي والإعجاز ولم يتعبد بتلاوته.
فالقول في تعريف القرآن بأنه كلام الله المعجز يخرج الحديث النبوي والحديث القدسي.
والجدير بالذكر أن القرآن يطلق على مجموع القرآن المكتوب في المصحف ويطلق على بعضه أي على كل آية من آياته، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول: إنه يقرأ القرآن. قال تعالى: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } سورة الأعراف ـ آية 24.
سبب تسمية هذا الكتاب بالقرآن
ذكر بعض العلماء أن تسمية هذا الكتاب قرآنا ًمن بين كتب الله لكونه جامعاً لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم. قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) سورة النحل: آية 89 .
أسماء القرآن
للقرآن الكريم أسماء كثيرة أوصلها البعض إلى نيف وتسعين اسما، اعتماداً على إطلاقات وصفات وردت في بعض الآيات كلفظ ( كريم ) في قوله تعالى: إنه لقرآن كريم ) سورة الواقعة: آية 77 ولفظ مبارك في قوله تعالى: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) سورة الأنبياء: آية 50 لكن المشهور من أسمائه على الترتيب:- القرآن – الفرقان – الكتاب – الذكر – التنزيل. ومن أسماؤه وأوصافه:
1-القرآن:إشارة إلى حفظه في الصدر: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] .
2-الكتاب:إشارة إلى كتابته في السطور: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة:1-2 ]
3-الذكر: في قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر: 9 ] .
4-الفرقان: إشارة إلى أنه يفرق بين الحق والباطل: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان: 1] .
أما أوصافه :
1-هدى: في قوله تعالى: { هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ } [ لقمان: 3 ].
2-نور: في قوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } [ النساء: 174 ].
3- شفاء: في قوله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ } [ الإسراء: 82].
4- حكمة: في قوله تعالى: { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [ القمر : 5] .
5- موعظة: في قوله تعالى: { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } [ يونس: 57] .
6- وحي: في قوله تعالى: { إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ } [ الأنبياء : 45] .
وهناك خمس وخمسون اسماً للقرآن . راجع: البرهان في علوم القرآن " للزركشي"
نشأة علوم القرآن وتطوره
استمر الصحابة رضوان الله عليهم – يتناقلون معاني القرآن الكريم وتفسير بعض آياته على تفاوت فيما بينهم، لتفاوت قدرتهم على الفهم، وتفاوت ملازمتهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وتناقل عنهم ذلك تلاميذهم من التابعين. وما روى عن الصحابة والتابعين يتناول:
علم التفسير، وعلم غريب القرآن، وعلم الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، إلى غير ذلك مما له صلة بالقرآن الكريم. ويطلق على هذه العلوم ( علوم القرآن ).
ولقد ظلت علوم القرآن تروى بالتلقين والمشافهة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم على عهد أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما -.
وفي خلافة عثمان بن عفان – رضي الله عنه – بدأ اختلاط العرب بالأعاجم، فاقتضت الدواعي جمع المسلمين على مصحف واحد فتم ذلك، واجتمعوا على مصحف إمام حيث نسخ منه عدة مصاحف للأمصار، وأمر الخليفة عثمان – وباتفاق - مع الصحابة حرق كل ماعداها دفعاً للخلاف والفتنة.
ويمكن القول: أن الممهدين لعلم التفسير هم الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبيّ بن كعب، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير. وكلهم من الصحابة –رضوان الله عليهم – ومما تجدر الإشارة إليه أن ما روى عنهم لا يتضمن تفسيراً كاملاً للقرآن، وإنما يقتصر على معاني بعض الآيات، بتفسير غامضها وتوضيح مجملها.
ثم جاء دور التابعين حيث اشتهر منهم جماعة أخذوا عن الصحابة واجتهدوا في تفسير بعض الآيات وعلى رأسهم: مجاهد بن جبر المكي، وعطاء بن يسار، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وزيد بن أسلم وعنه أخذ ابنه عبد الرحمن وغيرهم. وهؤلاء جميعاً هم الواضعون لما نسميه علم التفسير، وعلم أسباب النزول وعلم المكي والمدني وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم غريب القرآن.
وفي القرن الثاني الهجري جاء عصر التدوين فألفت كتب في أنواع علوم القرآن وفي مقدمتها التفسير باعتباره أم العلوم القرآنية لما فيه من التعرض لها في كثير من المناسبات عند شرح الكتاب العزيز .
أول من كتب في التفسير
يعتبر شعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح أول من كتبوا في التفسير، وكانت تفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين. وهم من علماء القرن الثاني الهجري.
ثم تلاهم ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310ه ويعتبر تفسيره من أجل التفاسير وأعظمها.
وإلى جانب هذا التفسير المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم – نشأ التفسير بالرأي حيث فسر القرآن الكريم كله.
أما علوم القرآن الأخرى ففي مقدمة المؤلفين فيها علي بن المديني شيخ البخاري، إذ ألف في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن سلام إذ كتب في الناسخ والمنسوخ. وكلاهما من علماء القرن الثالث الهجري. ثم تتابع العلماء في التأليف.
ويرى بعض الباحثين: أن اصطلاح (علوم القرآن ) بالمعنى الجامع الشامل لم يبدأ ظهوره إلا بكتاب البرهان في علوم القرآن لمؤلفه علي بن إبراهيم بن سعيد المشهور بالجوفي والمتوفى سنة 430ه، ويقع هذا الكتاب في ثلاثين مجلداً.
ثم تتابع العلماء من بعده حتى عصرنا الحاضر يكتبون ويؤلفون في هذا الفن خدمة للقرآن الكريم.
ومن أهمهم وأشهرهم ابن الجوزي المتوفى سنة 597ه الذي ألف كتابه ( فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن )، ثم بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 824هـ ألف كتابه ( البرهان في علوم القرآن )، ثم جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911ه ألف كتابه المشهور (الإتقان في علوم القرآن ) .
ولم يكن نصيب علوم القرآن من التأليف في هذا العصر أقل من العلوم الأخرى، فقد أقبل كثير من العلماء على تصنيف الكتب حول القرآن وتاريخه وعلومه، واتجهوا اتجاهاً سديداً في معالجة الموضوعات القرآنية بأسلوب العصر أمثال مصطفى صادق الرافعي في كتابه إعجاز القرآن، والشيخ محمد العظيم الزر قاني في كتابه مناهل العرفان في علوم القرآن، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى لا يتسع المجال إلى ذكرها.
تنزلات القرآن
إن القرآن الكريم هو دستور الحياة الدنيوية والأخروية، شرعه الله تعالى لصالحها، وكان لا بد من واسطة تقوم بإبلاغ هذا الدستور، حتى يؤتي ثماره، إذ من غير الممكن أن يبلغ الله هذا الدستور مباشرة لكل فرد فرد، وكان من الممكن أن يتلقى الرسول – صلى الله عليه وسلم – القرآن عن ربه مرة واحدة، ودون واسطة، كما تلقى موسى – عليه السلام – ألواح التوراة. وكان من الممكن أن ينزل القرآن الكريم من الله تعالى على جبريل – عليه السلام – لينزل به على محمد – صلى الله عليه وسلم – دون مراحل لهذا الإنزال.
لكن الثابت أن للقرآن الكريم تنزلات ثلاثة هي:
الأول:نزوله إلى اللوح المحفوظ، بمعنى إثباته فيه من غير نظر إلى علو وسفل. وكان هذا الإثبات والوجود في اللوح المحفوظ بطريقة وفي وقت لا يعلمهما إلا الله تعالى ومن أطلعه على غيبه. وكان جملة لا مفرقاً. والدليل على ذلك قوله تعالى : { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ }سورة البروج: آية 21، 22. وحكمة هذا النزول تعود إلى الحكمة من وجود اللوح نفسه، فإنه السجل الجامع لما كان وما سيكون إلى يوم القيامة.
الثاني: نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، والدليل على ذلك قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر ) سورة القدر: آية 1. وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا، كما تدل الروايات عن ابن عباس – رضي الله عنهما – منها على سبيل المثال: ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما – قال:
( أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – بعضه في إثر بعض )
الثالث: نزول جبريل – عليه السلام – به على النبي – صلى الله عليه وسلم – منجماً في نيف وعشرين سنة . والدليل على ذلك: قوله تعالى : { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } سورة الشعراء: آية 193 – 194 ). والنزول تفخيم شأن القرآن الكريم، وشأن من أنزل عليه، فإن في تعدد النزول تأكيداً للثقة فيه ومبالغة في نفي الشك عنه.
والذي يجب الجزم والقطع به: أن جبريل عليه – عليه السلام – نزل بألفاظ القرآن الكريم جميعها من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس، وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده لا دخل لجبريل ولا لمحمد – عليهما السلام – في إنشائها ولا في ترتيبها، فا لألفاظ التي نقرؤها ونكتبها هي من عند الله تعالى.
وليس لجبريل – عليه السلام – في هذا القرآن سوى إيصاله وحكايته للرسول – صلى الله عليه وسلم – كما أنه ليس للرسول –صلى الله عليه وسلم – سوى وعيه وحفظه وتبليغه، ثم بيانه وتفسيره، ثم تطبيقه وتنفيذه.
ولقد نسب الله القرآن إلى نفسه في عدة آيات منها:{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل: 6]. وقوله تعالى: { وَإِنْ أَحَدُُ مِّنَ الْمُشْرِكيَن اسْتَجَارِكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله } [التوبة :6].
ولعل حكمة نزول القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا تكمن في :
أ- تفخيم أمر القرآن وأمر من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم.
ب- سر يرجع لإعجاز القرآن، في ترتيب القرآن في النزول، ثم ترتيبه في المصحف، حيث ينظره جبريل في سماء الدنيا وهو على ترتيب المصحف، ثم ينزل بآياته تباعاً على حسب الحوادث، فتوضع كل آية مكانها في المصحف وفق الترتيب في اللوح المحفوظ .
وأما حكمة نزول القرآن منجماً من السماء الدنيا :
أ- تثبت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه: كما قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } . [ الفرقان: 32] . فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في قوم جفاة، شديدة عداوتهم، كما قال تعالى: { وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمَاً لُّدّاً } [ مريم: 97]. وكانوا لا يكادون ينتهون من حملة أو مكيدة حتى يشرعوا في تدبير أخرى مثلها أو أشد منها، فكانت تنزلات القرآن بين الفينة والأخرى تواسيه وتسليه، وتشد أزره وعزيمته على تحمل الشدائد والمكارة .
ب- مواجهة ما يطرأ من أمور أو حوادث تمس الدعوة: كما قال تعالى:{ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان: 33] وهذه حكمة جليلة لها أثرها البالغ في نجاح الدعوة، لمواجهة الوحي نفسه للطوارىء والملمات، ومن أهم ذلك ما يثيره المبطلون من الاعتراضات أو الشبهات، وهو الأصل الذي صرحت به الآية الكريمة : أي لا يأتونك بسؤال عجيب أو شبهة يعارضون بها القرآن بباطلهم العجيب إلا جئناهم بما هو الحق في نفس الأمر الدامغ لباطلهم، وهو أحسن بياناً وأوضح، وأحسن كشفاً لما بعثت له.
ج- تعهد هذه الأمة التي أنزل عليها القرآن: وذلك لصياغتها على النهج الإسلامي القرآني علماً وعملاً، وفكراً واعتقاداً وسلوكاً، تخلقاً وعرفاً. كما قال تعالى:{ وَقُرءاناً فَرَقنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } [ الإسراء: 106]. ومن مظاهر هذا الجانب أنهم كانوا قوماً أميين لا يحسنون القراءة والكتابة، فكانت الذاكرة عمدتهم الرئيسية، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه.
د-التحدي والإعجاز.
هـ- تربية للرسول صلى الله عليه وسلم وتصبيره على أذى المشركين، وتثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين.
تنجيم القرآن الكريم
نزل القرآن الكريم مفرقاً حسب الوقائع والحوادث ومقتضيات الأحوال ، ويسمي العلماء القطعة التي نزلت دفعة واحدة نجماً ، كأنهم ينزهون القرآن عن لفظ التقطيع والتفريق ، ويشبهون أجزاءه بالنجوم ، من حيث إن كل نجم له استقلاله ، في الوقت الذي هو فيه جزء من مجموعة الكواكب .
قال الإمام السيوطي: الذي أستقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة، وصح نزول ( غير أولي الضرر ) وحدها وهي بعض آية. وهذا التنجيم خاص بالقرآن الكريم من بين سائر الكتب السماوية.
وأما حكم التنجيم، فلتنجيم القرآن الكريم – أي لنزوله مفرقاً على دفعات – حكم كثيرة بعضها يتصل بشخص الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبعضها يتصل بالأمة، وبعضها يتصل بالنص القرآني نفسه أهمها فضلاً عما بيناه آنفاً:
1. تثبيت فؤاد النبي – صلى الله عليه وسلم – والدليل على ذلك قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً. ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً } سورة الفرقان: آية 32- 33.
2.تيسير حفظ القرآن الكريم على النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى أمته. والدليل على ذلك قوله تعالى: { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً } سورة الإسراء: آية 106
3. التدرج بالأمة في تخليهم عن الرذائل، وتحليهم بالفضائل، والترقي بهم في التشريعات، فلو أنهم أمروا بكل الواجبات ونهوا عن جميع المنكرات دفعة واحدة لصعب عليهم.
4.مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتنوعها فكلما جد جديد نزل من القرآن ما يناسبه، وفصل الله لهم من أحكامه ما يوافقه.
5. تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين، بسبب ما كان يقصه القرآن الكريم عليهم من قصص الأنبياء والمرسلين، وأخبار الأمم السابقة، وبيان سنة الله فيهم.
6. الإشارة إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده وأنه تنزيل من حكيم حميد، فإن القرآن - رغم نزوله مفرقاً - مترابط أقوى ترابط كأنه عقد تم نظمه بدقة وإحكام تفوق قوى البشر. قال تعالى: { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } سورة: هود آية 1 . ولو كان هذا القرآن من كلام البشر وقيل في مناسبات متعددة ووقائع متتالية وأحداث متعاقبة، لوقع فيه التفكك والانفصام والتعارض وعدم الانسجام. قال تعالى: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } سورة النساء: آية 82.
7. التحدي والإعجاز ولما عجب المشركون من نزول القرآن منجماً بين الله لهم الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقاً مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم: جيئوا بمثله.
أول ما نزل من القرآن الكريم وآخر ما نزل منه
أصح الآراء في هذا الموضوع أن أول مانزل من القرآن الكريم على الإطلاق هو صدر سورة العلق { اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم } آية 1- 5.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغير هما عن عائشة – رضي الله عنها – قالت:
( أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة - رضي الله عنها – فتزوده لمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )... الحديث. ( مالم يعلم ) فرجع بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره ).... الحديث .
التحنث: التعبد، وأصله ترك الحنث، أي الذنب، وغطني: أي ضمني ضماً شديداً، حتى كان لي غطيط، وهو صوت من حبست أنفاسه بما يشبه الخنق، والجهد: - بفتح الجيم – يطلق على المشقة وعلى الوسع والطاقة، وبضمها: يطلق على الوسع والطاقة لا غيره.
وأصح الآراء في آخر ما نزل من القرآن الكريم على الإطلاق قوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .....} البقرة: آية 281 لما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير: آخر شيء نزل من القرآن: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله...} الآية . فقد روى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عاش بعد نزولها تسع ليال ثم مات.
وقيل: إن آخر ما نزل هو قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } سورة البقرة: آية 278 لما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا.
وقيل: إن آخر ما نزل قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه....} سورة البقرة: آية 282 لما روى عن سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدين.
وجمع بين هذه الآراء الثلاثة بأنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، لأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر ما نزل والكل صحيح.
أي إن :
1-أول ما نزل قوله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق:1]. وهذا هو الصحيح.
2- آخر ما نزل: قوله تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ البقرة:281] وهذا أقوى الآراء وأرجحها في آخر ما نزل من القرآن مطلقاً.
3- الأوائل والأواخر المخصوصة :
الأوائل المخصوصة :
أ- أول سورة نزلت بتمامها سورة الفاتحة .
ب- أول ما نزل في تشريع الجهاد: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ...} [الحج: 39] .
جـ- أول ما نزل في تحريم الخمر: { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...} [البقرة: 219] .
د- أول ما نزل في الأطعمة: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا...} [الأنعام: 145] .
-الأواخر المخصوصة :
أ - آخر ما نزل يذكر النساء خاصة: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى...}
[آل عمران: 195].
ب- آخر ما نزل في المواريث: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ...} [النساء: 176] .
جـ - آخر سورة نزلت بتمامها: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } [النصر:1] .
المنظومة التكاملية لعلوم القرآن الكريم
الجزء الثاني
الوحي
أ - تعريفه: لغة: الإعلام في خفاء بسرعة، تقول: أوحيت إلى فلان إذا كلمته خفاء . ومن معناه اللغوي
• الإلهام الفطري للإنسان، كالوحي إلى أم موسى. قال تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ }[اقصص:7]
• الإلهام الغريزي للحيوان، كالوحي إلى النَّحل . قال تعالى: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [النحل: 68].
• الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيحاء. قال تعالى عن زكريا: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } [مريم: 11].
• وسوسة الشيطان وتزيينه الشرَّ في نفس الإنسان. قال تعالى: { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام: 121].
• أمر الله إلى الملائكة في قوله تعالى:{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } [ الأنفال: 12].
وأما شرعاً:هو كلام الله المنزل على نبي من أنبيائه بطريقة خفية سريعة، غير معتادة للبشر.
وأما كيفية وحي الله تعالى إلى رسله فهو على عدة أشكال:
1-بواسطة جبريل عليه السلام
2-بغير واسطة
أ-مثل الرؤيا الصالحة في المنام. عن عائشة رضي الله عنها قالت أول ما بدىء به صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. (فتح الباري شرح صحيح البخاري، رقم : 3 ).
ب- التكليم الإلهي من وراء حجاب يقظة . قال تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء: 164].
جـ- التكليم ليلة الإسراء والمعراج مباشرة بلا واسطة [ فتح الباري 1/19].
3- الدليل للحالة (أ) و (ب): { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى: 51].
جـ- كيفية نزول جبريل عليه السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم.
الحالة الأولى: يأتيه مثل صلصلة الجرس - هو في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض ، ثم أطلق على كل صوت له طنين كما جاء في [ فتح الباري 1/20 ] -، وهو أشده على الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الحالة: انسلاخ من البشرية الجسمانية واتصال بالملكية الروحانية.
الحالة الثانية: أن يتمثل له الملك رجلاً، ويأتيه في صورة بشر، فإن جبريل عليه السلام قد تمثل في صور كثيرة ، منها : في صورة دِحية الكلبي ، وصورة أعرابي كما ذكرت ذلك كتب السير والسنن ومنها ما جاء في [ فتح الباري 1/19 بتصرف ]. وهذه الحالة أخف على الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنها عكس الحالة الأولى، فهي الملك من الروحانية المحضة إلى البشرية الجسمانية
دليل الحالتين: روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ فَيَفْصم عني (أي يقطع ويتجلى ما يغشاني ) وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. [فتح الباري شرح صحيح البخاري رقم: 2] .
الحالة الثالثة: النفث في الرُّوْع (أي الإلقاء في القلب والخاطر). ودليل هذا ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
" أن روح القدس نفث في رُوْعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجَلها، وتستوعب رزقها …"
الحالة الرابعة: دوي النَّحْل(صوت النحل). ودليل هذا ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ يُسمَع عند وجهه دويٌ كدوي النَّحْل …
د- آثار الوحي ومظاهره على النبي صلى الله عليه وسلم .
عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [ القيامة: 16]، قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان يحرك شفتيه… فأنزل الله عز وجل: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [القيامة: 16-17] قال: جمعه لك في صدرك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع ، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما كان قرأ.
ومن آثار الوحي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي سُمع عند وجهه دويٌّ كدوي النحل. ومنها أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي ثقل جسمه حتى يكاد يرضّ فخذه فخذ الجالس إلى جنبه.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه:
{ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ النساء: 95].
فجاء ابن مكتوم وهو يُمِلُّها عليّ، قال: يا رسول الله. والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت-وكان أعمى فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت عليَّ حتى خفت أن ترضّ فخذي، ثم سُرِّيَ عنه فأنزل الله: { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } [النساء: 95 ].(البخاري 2677)
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي بركت به راحلته. عن عائشة رضي الله عنها قالت:إن كان يوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب، بِجِرانها ( الجِران : باطن عنق الناقة). رواه الإمام أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه.
وأما كيفية أخذ جبريل القرآن الكريم، فمن الأقوال المشهورة في هذا الموضوع: أن جبريل كان يحفظه من اللوح وينزل به إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وقيل: إن جبريل تلقى القرآن من الله سماعاً ونزل بما سمع.
أما كيفية أخذ – الرسول – صلى الله عليه وسلم – القرآن من جبريل: فقد أخذ الرسول – صلى الله عليه وسلم – القرآن من جبريل بطريقتين هما:
الأول: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان ينخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية فيأخذه.
الثاني: أن جبريل كان ينخلع من الملكية إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه، والأول أصعب الحالين. فأحياناً كان الملك يأتي في مثل صلصلة الجرس فيغط الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويتغير لونه ويشتد عرقه حتى ينحدر منه في اليوم الشديد البرد. وهذه الحالة كانت أشد حالات الوحي عليه. وهاتان الحالتان وردتا في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – أن الحارث بن هشام – رضي الله عنه – سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ( يا رسول الله.. كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول ) (صحيح البخاري) .
وابتدأ إنزال القرآن الكريم على الرسول – صلى الله عليه وسلم – بابتداء بعثته في سن الأربعين على الأصح، وانتهى إنزاله بقرب انتهاء حياته، فتكون المدة التي نزل فيها القرآن الكريم نحو ثلاث وعشرين سنة، ثلاث عشرة منها بمكة وعشر بالمدينة.
المنظومة التكاملية لعلوم القرآن الكريم
الجزء الثالث
مصطلحات ومعاني في علوم القرآن الكريم
1. النص: هو في اللغة الظهور والارتفاع, وفي الاصطلاح هو ما دل على معنى واحد لا يحتمل غيره (أنظر القاموس 2/319, والتعريفات للجرجاني 126, وشرح التنقيح للقرافي ص36, وانظر أمالي الدلالات للشيخ عبد الله بن بيه ص83). ومثاله قوله تعالى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }, (الاخلاص:1), وقوله تعالى {.... فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ .... }(البقرة: من الآية196) –أنظر الرسالة للإمام الشافعي فقرة 56,98-.
2. الظاهر: الواضح البارز, وفي الاصطلاح هو المعنى الذي يسبق إلى فهم السامع من المعاني التي يحتملها اللفظ (أنظر لسان العرب لابن منظور 4/523, والتعريفات للجرجاني 143, وسلاسل الذهب للزركشي بتحقيق الدكتور محمد المختار بن محمد الأمين ص196). وكمثال (الأسد) لأنه متردد بين الرجل الشجاع والحيوان المفترس, ولا أنه في الأخير أرجح وأقرب. ولاشتراك النص والظاهر في الظهور والانكشاف لغة, وقع الخلاف بينهما اصطلاحاً, والفرق بينهما أن النص يدل على غاية الظهور, بينما الظاهر يدل على مطلق الظهور.
يقول عبد الله بن بيه في كتابه (أمالي الدلالات ص90) ما نصه: ( إن الإظهار المتعدي أقوى من الظهور اللازم, والنص من الأول والظاهر من الثاني, فالأول أعم من الثاني ويدل على أقصى غاية الظهور ومنتهاه, والظاهر يدل على مطلق الظهور).
3- المؤول: من آل يؤول, تقول آل الأمر إلى كذا إذا رجع إليه, ومنه قوله تعالى : { ....َأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } (آل عمران: من الآية7), أي طلب ما يرجع إليه معناه. وفي الاصطلاح هو إخراج اللفظ عن ظاهره إلى وجه مرجوح يحتمله لدليل و قرينة أو قياس (أنظر التعريفات للجرجاني ص28, وتقريب الأصول إلى علم الأصول ص162). وهذا التأويل إن كان قوياً فهو الصحيح, وإن كان ضعيفاً فهو الفاسد, وهذا يعني أن ليس كل تأويل مقبول. وكمثل على التأويل الصحيح حمل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ..} (المائدة:من الآية6) على أنها تعني العزم على القيام إليها كما في نظيرها وهو قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (النحل:98). وكذلك حمل الجار الوارد في حديث (الجار أحق بصقبه) على الجار المشارك لحديث (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفاعة).
4- المنطوق: لغة اسم مفعول وهو الملفوظ, واصطلاحاً ما دل عليه اللفظ في محل النطق (أنظر نشر البنود على مراقي السعود 1/89). ومثاله الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري – 3/298- ومسلم –4/213- : (الولاء لمن أعتق), فمنطوقه إثبات الولاء للمعتق, ولا خلاف بين أهل العلم في الاحتجاج بالمنطوق (أنظر شرح الكوكب المنير 3/473, إرشاد الفحول للشوكاني ص178).
5- المفهوم: لغة اسم مفعول من الفهم, واصطلاحاً ما دل على اللفظ في غير محل النطق, ويقسم إلى:
مفهوم موافقة: وهو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه, وينقسم إلى نوعين أولهما ما يعرف بـ (الأولى من المنطوق) مثل قوله تعالى {... فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا... } (الإسراء: من الآية23), فالنهي عن الضرب المفهوم أولى من النهي عن التأفيف المنطوق. أما الآخر فهو المساوي مثل مساواة إتلاف مال اليتيم بأكله أو حرقه المنهي عنه في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } (النساء:10) , وهو حجة وإن وقع الخلاف في تسميته (أنظر شرح الكوكب المنير 3/483, إرشاد الفحول للشوكاني ص179-183).
مفهوم المخالفة: ويطلق عليه المفهوم غالباً, وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه (مذكرة الشيخ محمد أمين الشقنقيطي ص237, وإرشاد الفحول ص179, تقريب الأصول ص169), وهو حجة عند جمهور العلماء على خلاف في ترتيبه, وهو عشرة أنواع:
- مفهوم العلة نحو (ما أسكر فهو حرام), أنظر البخاري 3/223.
- مفهوم الصفة نحو (في سائمة الغنم الزكاة) أنظر البخاري 1/253.
- مفهوم الشرط نحو قوله تعالى: {... وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ... } (الطلاق: من الآية6).
- مفهوم الاستثناء نحو قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } (العنكبوت:14) .
- مفهوم الغاية نحو قوله تعالى: {.... ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل..} (البقرة: من الآية187).
- مفهوم الحصر ومثاله الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم: (إنما الولاء لمن أعتق), وهو أقواها.
- مفهوم الزمان نحو قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً } (المزمل:2) .
- مفهوم المكان نحو قوله تعالى: {.... وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ... } (البقرة: من الآية187).
- مفهوم العدد نحو قوله تعالى: {... فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ....} (النور: من الآية4).
- مفهوم اللقب نحو (في الغنم زكاة), وهو أضعفها, وهو تعليق الحكم على أسماء الذوات.
على أن ترتيب وتفصيل هذه الأنواع قد يختلف في مصادر أخرى وله شروط وقرائن .
6- العام: هو الشامل, وفي الاصطلاح, هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له دفعة بلا حصر (القاموس 4/194, سلاسل الذهب للزركشي, ص150). وأدوات العموم هي: ( كل, جميع, أجمع والمعرف بالألف التي هي للجنس, وكذلك اسم الجمع مثل القوم, الرهط). والنكرة في سياق النفي كقوله تعالى: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } , (البقرة:2). وفي سياق النهي كقوله تعالى: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } (الإنسان:24) . أو في سياق الشرط مثل قوله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ } (التوبة:6). أو في سياق الامتنان مثل قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً }, (الفرقان:48) . (راجع تقريب الأصول, ص 138-139, والمذكرة ص204-207). الأسماء الموصولة مثل (الذي, التي, وثنيهما وجمعهما, من, ما, أي, متى في الزمان, أين وحيث في المكان, مهما).. (أنظر إرشاد الفحول للشوكاني ص115, والمذكرة ص205).
7- الخاص: لغة ضد العام, واصطلاحاً هو قصر العام على بعض أفراده لدليل, والتخصيص هو جعل الشيء خاصاً, وعرف اصطلاحاً بأنه: إخراج بعض ما يتناوله للفظ من الحكم بما يدل على ذلك قبل العمل به (راجع البرهان 1/400).. والمخصص هو الدليل الذي يتم به ذلك (شرح الكوكب المنير 3/277, بيان المختصر شرح مختصر بن الحاجب 2/236)..
ومخصصات العموم نوعان:
أ- متصلة وهي:
أولاً:الاستثناء, ومثاله قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }, (النور:4-5).
ثانياً: الشرط, مثاله قوله تعالى:{ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ }(النساء:من الآية11).
ثالثاً: الصفة, ومثاله قوله تعالى: {....مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ.... } , (النساء: من الآية25) .
رابعاً: الغاية, مثل قوله تعالى: {.. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ.. } (البقرة: من الآية222) .
ب- منفصلة وهي:
أولاً: العقل: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }, (الزمر:62).
ثانياً: الحس, وهو الدليل المأخوذ من الحواس.
ثالثاً: منطوق الكتاب, كقوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ...}, (البقرة: من الآية228). حيث خص بعمومه بقوله تعالى: {.. وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن..} , (الطلاق: من الآية4).
رابعاً: مفهوم الكتاب, كمفهوم قوله تعالى:{... فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ...}, (الإسراء: من الآية23). وهو منع حبس الوالد في الدين, فيكون مخصصاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (لي الوالد ظلم يحل عرضه وعقوبته).
خامساً: منطوق السنة, مثل قوله صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمس أوسق صدقة), فإنه مخصص لقوله صلى الله عليه وسلم (فيما سقت السماء العشر).
سادساً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم: مثل ما ثبت من أنه كان يأمر بعض نسائه أن تشد إزارها ثم يباشرها وهي حائض, فعلم أن هذا مخصص لقوله تعالى: {.. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْن.. }, (البقرة:من الآية222).
سابعاً: إقراره صلى الله عليه وسلم: مثل استبشاره بقول مجزز المدلجي (هذه الأقدام بعضها من بعض).
ثامناً: الإجماع على تحريم المملوكة إذا كانت أختاً من الرضاع, فيكون مخصصاً لقوله تعالى: {... أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.. }, (النساء: من الآية3).
تاسعاً: القياس, مثل قياس العبد على الأمة في حد الزنا الوارد في قوله تعالى: {... فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب.. }, (النساء: من الآية25). فيكون هذا مخصص لقوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ... }, (النور: من الآية2)..
وهناك مخصصات وقع الخلاف فيها..( عن كتاب روضة الناظر ص127, والمذكرة ص218).
8- المطلق: مأخوذ من الإطلاق وهو الإرسال, وفي الاصطلاح: اللفظ المتناول لواحد لا بعينه باعتبار الحقيقة الشاملة لجنسه.
9- المقيد: المقيد لغة ضد المطلق, واصطلاحاً هو نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةاللفظ الدال على الماهية الموصوفة بأمر زائد عليها). مثالهما قوله تعالى: {.... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان ِ ..}(البقرة: من الآية282). فقوله تعالى (شهيدين) مطلق, قيده قوله تعالى: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ..}(الطلاق: من الآية2).
10- المجمل: المجمل لغة المجموع من قولهم: أجمل الحساب إذا جمعه, (اللسان 11/127), بيان المختصر 2/359), وفي الاصطلاح هو : (ما لا يفهم المراد من لفظه, ويفتقر في بيانه إلى غيره), (أنظر تقريب الوصول ص162, وبيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب 2/359). مثاله القرء الوارد في قوله تعالى: { المُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ }(البقرة: من الآية228), لأنه متردد بين الحيض والطهر (أنظر شرح المختصر 2/362).
11-المبين: لغة الموضح, وفي الاصطلاح : (إخراج الشيء من الإشكال إلى الوضوح والتجلي, (أنظر القاموس 4/204, الرسالة للإمام الشافعي ص21 فقرة 53 فما بعد, تقريب الأصول ص163). مثاله قوله تعالى: {.... أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ }, (الحجر: من الآية66), بعد قوله تعالى في بداية الآية {... } حيث أن هذا الأمر كان مجملاً ثم بين بما بعده. وأكثر البيان وقوعاً البيان بالقول, ومنه البيان بالفعل, وبالكتابة, وبالإشارة, وبالعقل, وبالحس, (أنظر أمالي الدلالات ص 158).
12- الإفراد والاشتراك: مثل لفظ النكاح فإن جعل معناه مفرداً وهو الوطأ أرجح من جعله مشتركاً بينه وبين العقد, (أنظر نشر البنود على مراقي السعود 1/134).
13-التأصيل على الزيادة: التأصيل هو جعل الشيء ذا أصل, ومثال تقديم التأصيل على الزيادة قوله تعالى:{ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ }, (البلد:1). قيل إن لا هنا زائدة, فيكون أصل الكلام (أقسم بهذا البلد, وقيل أنها غير زائدة, فيكون التقرير:{لاأقسم بهذا البلد } نت لست فيه بل لا يعظم ويصلح للقسم إلا إذا كنت فيه, وهذا أولى, (أنظر الجامع لأحكام القرآن20/60). ثم إن القول بوجود زيادة في القرآن ولو بحرف مردود لعدة أسباب بينها العلماء الأفاضل ومنهم الدكتور أحمد الكبيسي، فيكون معنى (لا) هنا زيادة في التوكيد, والله أعلم.
14- الترتيب على التقديم والتأخير: مثل قوله تعالى: { والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ..} (المجادلة: من الآية3). فظاهره أنه لا تجب الكفارة إلا بالوصفين المذكورين قبلهما وهما (الظهار) و(العود), وقيل فيهما تقديم وتأخير وتقديره
( والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما كانوا من قبل الظهار, سالمين من الإثم بسبب الكفارة, وعليه فلا يكون العود شرطاً في كفارة الظهار. (أنظر تقريب الوصول ص 176), فيقدم الترتيب على احتمال معنى التقديم والتأخير.
15- التأسيس والتأكيد: مثاله قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } , (الرحمن:13). فقد كررت هذه الآية تأكيداً ومبالغة, وهذا على مقتضى ظاهر اللفظ, ويلزم من ذلك أن تكون تكررت أكثر من ثلاث مرات, والتأكيد لا يزيد على ثلاث مرات, (أنظر التسهيل 4/83, 84), فيحمل الآلاء في كل موطن على ما تقدم قبل لفظ التكذيب, ويكون التكذيب ذكر باعتبار ما قبل ذلك اللفظ خاصة, وعلى ذلك فلا تأكيد في السورة وإنما يعتبر كل لفظ تأسيس, وكذا الحال فيما شابه ذلك في القرآن.(أنظر تقريب الوصول بتحقيق الدكتور محمد المختار ص176 هامش 3, والجامع لأحكام القرآن 17/159-160).
16- البقاء على النسخ: مثال قوله تعالى: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ .... }(الأنعام: من الآية145). فالحصر في الآية يقتضي إباحة ما عدا المذكور, ومنه كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير, وقد ثبت النهي عن ذلك, فقيل إن هذا النهي ناسخ لإباحة ما زاد عن المذكور, وهو المفهوم من الحصر. وقيل أن الآية ليس فيها نسخ, وإنما زيدت عليها محرمات أخرى كالمنخنقة والموقوذة والمتردية وغيرها كما في قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَي