المنظومة التكاملية لعلوم القرآن الكريم
الجزء السادس
جمع القرآن الكريم
جمع القرآن كلمة قد يراد بها جمعه في الصدور وحفظه واستظهاره، فعطف الكتابة عليه عطف مغاير، وقد يراد به جمعه في الصحف وكتابته وضم بعضه إلى بعض في سطور، فعطف الكتابة عليه عطف تفسير.
يطلق الجمع على معنيين:
1- المعنى الأول : جمعه بمعنى الحفظ في الصدور ، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى:
{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [ القيامة: 16-17].
2-المعنى الثاني: جمع القرآن بمعنى كتابته في السطور، أي الصحائف التي تضم السورة والآيات جميعها.
حفظ الصحابة للقرآن الكريم
توفرت للصحابة العوامل التي تجعلهم قادرين على حفظ القرآن وتسهل عليهم هذه المهمة ومن تلك العوامل:
1- قوة ذاكرتهم الفذة التي عرفوا بها واشتهروا، حتى كان الواحد منهم يحفظ القصيدة من الشعر بالسمعة الواحدة.
2-نزول القرآن منجماً.
3- لزوم قراءة شيء من القرآن في الصلاة.
4-وجوب العمل بالقرآن، فقد كان هو ينبوع عقيدتهم وعبادتهم، ووعظهم وتذكيرهم.
5- حض النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن، والترغيب بما أعد للقارىء من الثواب والأجر العظيم.
6- تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بتعليم القرآن: فكان الصحابة تلامذة للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخهم، يتعاهدهم بتعليم القرآن، فإذا أسلم أهل أفق أو قبيله أرسل إليهم من القراء من يعلمهم القرآن، وإن كان في المدينة ضمه إلى حلق التعليم في جامعة القرآن النبوية.
وسنعرض – بإيجاز – لحفظ القرآن الكريم وكتابته في ثلاثة عصور هي: عصر النبي –صلى الله عليه وسلم -، عصر أبي بكر، عصر عثمان (رضي الله عنهما ).
المرحلة الأولى: الجمع الأول في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- حفظه في الصدور: وهو لون من الحفظ يدوم مع الزمان، لا يذهب بذهاب الإنسان، فلا بد أن يتحقق ما تكفل الله بحفظه: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوا القرآن عن ظهر قلب لا يفتر لا سيما في الليل، حتى إنه ليقرأ في الركعة الواحدة العدد من السور الطوال. ولزيادة التثبيت كان جبريل يعارضه بالقرآن كذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن . وقال أبو هريرة: كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه …
لقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن عناية بالغة جداً، فكان كلما نزل عليه شيء منه دعا الكُتّاب - منهم: علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان- فأملاه عليهم، فكتبوه على ما يجدونه من أدوات الكتابة حينئذ مثل: الرقاع، اللخاف، والأكتاف، والعسب . وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم جهد هؤلاء الكتاب في كتابة القرآن فمنع من كتابة غيره إلا في ظروف خاصة أو لبعض أناس مخصوصين.
فتحقق بذلك توفر طاقة كبيرة لكتابة القرآن وترتيبه، كما أخرج الحاكم عن أنس رضي الله عنه: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن في الرَّقاع… ومقصود هذا الحديث فيما يظهر أن المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم .
جمعه في عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم :
بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمياً في قوم أميين، وكانت معجزته عقلية غير حسية وهي القرآن الكريم، فلم يكن بداً من اعتمادها أولاً وبالذات على الذاكرة والحفظ، لذلك حرص الرسول – صلى الله عليه وسلم - على تلقيه أولاً بأول من جبريل بل حرص على أن يتعجل أخذه منه مخافة أن يتفلت منه شيء حتى طمأنه الله تعالى، وضمن له جمعه في صدره، حيث قال تعالى: ( لاتحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه* فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) سورة القيامة: آية 16 – 19.
ولم يكن ينفصم الوحي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى يسارع إلى أصحابه، يقرأ عليهم ما أنزل، ويبلغهم ما أوحى إليه، ثم يتدارس معهم في مجالسهم ويتلو معهم ما سبق نزوله من القرآن.
وقد ثبت أن حفظة القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا جمعاً غفيراً، فإن الاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذه الأمة. وقال ابن الجزري شيخ القرّاء في عصره: ( إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة )
جمع القرآن بمعنى كتابته على عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم :
اتخذ الرسول –صلى الله عليه وسلم – كتاباً للوحي من أجلاّء الصحابة، كعلي، ومعاوية، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، يكتبون ما ينزل من القرآن على سعف النخيل، وعلى صفائح الحجارة وعلى الخرق وعلى الجلود، ثم يتركون ما يكتبون في بيته – صلى الله عليه وسلم -، وكلما نزل عليه شيء دعا بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا. وكان جبريل يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن كل سنة في ليالي رمضان. وكان الصحابة يعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لديهم من القرآن حفظاً وكتابة ً كذلك.
وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم محفوظ في الصدور، ومكتوب في الصحف على نحو ما سبق، مفرق الآيات والسور، أو مرتب الآيات فقط، وكل سورة في صحيفة على حدة، بالأحرف السبعة الواردة،
لم يجمع القرآن في مصحف عام لعدة أسباب من أهمها:
1 - لأن الوحي كان يتنزل تباعاً فيحفظه القراء ويكتبه الكتبة، فلم تدع الحاجة إلى تدوينه في مصحف واحد، وكان – عليه الصلاة والسلام – يترقب نزول الوحي من حين لآخر.
2- وقد يكون منه الناسخ لشيء نزل من قبل، ولو جمع القرآن كله بين دفتي مصحف واحد لأدى هذا إلى التغيير كلما نزل شيء من الوحي.
المرحلة الثانية: الجمع الثاني في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه.
لعل من أهم دواعي كتابة القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه هي قصة الكذاب مسيلمة، فقد ادعى النبوة رجل يقال له مسيلمة الكذاب، وتبعه قومه، وقوي أمره بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه أبو بكر الصديق خالد بن الوليد في جمع من الصحابة، فحاربوه أشد محاربة إلى أن خذله الله وقتله، وفي غضون ذلك قتل عدد كبير من الصحابة، قيل: سبعمائة، وقيل: أكثر، وفيهم نحو سبعين من القراء الذين مهروا في القرآن وحفظه، وتصدروا لتعليمه، وعلى رأسهم سالم مولى أبي حذيفة، أحد الأربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم في قوله: ( خذوا القرآن من أربعة، من عبد الله ابن مسعود، وسالم، وأبي بن كعب )
ففزع عمر بن الخطاب لمقتل سالم وأصحابه، وخشي أن يذهب القرآن، وصادف أن سأل عمر عن آية من كتاب الله، فقيل له: كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، قال: إنا لله. وأسرع إلى أبي بكر يقول له: إن القتل قد استحر ( أي اشتد ) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
واستشعر أبو بكر أن هذا الأمر بدعة، فقال لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجع أبا بكر حتى شرح الله صدره ورأى ما رآه عمر فعزم على تنفيذه. ولما اقتنع أبو بكر وعزم على التنفيذ قال له عمر: أما إذا عزمت على هذا فأرسل إلى زيد بن ثابت فادعه يجمعه معنا. قال زيد بن ثابت: فأرسلا إليّ، فأتيتهما، فقال لي أبو بكر: ( إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي، وإن هذا دعاني إلى أمر، فإن تك معه تبعتكما، وإن توافقني لا أفعل، فقال عمر: إنا نريد أن نجمع القرآن في شيء فاجمعه معنا، فنفر زيد، فقال أبو بكر لعمر: كلمه. وما عليكما لو فعلتما، فكلمه فأقنعه، واتفقوا على العمل.
يقول زيد: فوالله لو كانوا كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. ووكلت مهمة جمع القرآن لزيد وعمر رضي الله عنهما ورسم لهما أبو بكر خطة العمل، خطة دقيقة محكمة، تضمن لكتاب الله قدسيته وسلامته من التغيير والتبديل. قال لهما:
1 – لا تعتمدا على حفظكما ولا على كتابتكما في جمع القرآن وأخذه من المسلمين، فأنتما قاضيان والقاضي لا يحكم بناء على علمه.
2 – ولا تقبلا شيئاً من مجرد الحفظ، بل من المكتوب الموافق للمحفوظ.
3 – لا تقبلا من أحد شيئاً حتى يشهد شاهدان على أن ذلك المكتوب هو مما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لهما: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.
فقام عمر في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأت به. ونفذا الدستور بدقة.
وتمت كتابة القرآن مرتب الآيات في سورها، مقتصراً على ما لم تنسخ تلاوته، مشتملاً على الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن. ثم ضمت الصحف وربطت بخيط، وحفظت عند أبي بكر حتى توفاه الله، فانتقلت إلى عمر طيلة حياته، ثم عند ابنته حفصة لأنها كانت وصية عمر، فاستمر ما كان عنده عندها.
والجدير بالذكر أن أبا بكر فعل ذلك بطريق الاجتهاد السائغ الناشئ عن النصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، على أن القرآن كان مأذوناً بكتابته في قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ )رواه مسلم، وكل ما فعله أبو بكر أنه جمع المتفرق وضم بعضه إلى بعض. وكان هذا العمل مفخرة لأبي بكر، لا موطناً للنقد والطعن.
عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليَّ أبو بكر، مقتلَ أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال : إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر : كيف تفعل شيئاَ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتّبع القرآن فأجمعه - فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن- قلت كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال: والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب و اللِّخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، ولم أجدها مع غيره: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ...} [التوبة: 128- 129]. حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم.
فكان منهج زيد بن ثابت في جمع القرآن يعتمد على تتبعه الدقيق في جمع القرآن من العُسُب و اللَّخاف وصدور الرجال، فكان منهجه أن يسمع من الرجال ثم يعرض ما سمعه على ما كان مجموعاً في العُسُب والأكتاف، فكان رضي الله عنه لا يكتفي بالسماع فقط دون الرجوع إلى الكتابة، وكذلك من منهجه في جمع القرآن أنه لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد عليه شاهدان، وهذا زيادة في التحفظ، مع أن زيداً كان من حفظة القرآن.
وقد اعتمد الصحابة كلهم وبالإجماع القطعي هذا العمل وهذا المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وتتابع عليه الخلفاء الراشدون كلهم والمسلمون كلهم من بعده، وسجلوها لأبي بكر الصديق منقبة فاضلة عظيمة من مناقبه وفضائله. وحسبنا في ذلك ما ثبت عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله.
وبهذا جمعت نسخة المصحف بأدق توثق ومحافظة، وأودعت لدى الخليفة لتكون إماماً تواجه الأمة به ما يحدث في المستقبل، ولم يبق الأمر موكلاً إلى النسخ التي بين أيدي كَتّاب الوحي، أو إلى حفظ الحفاظ وحدهم. وبهذا التثبت والتحفظ تم جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق في مصحف واحد مرتب الآيات والسور.
المرحلة الثالثة: الجمع الثالث في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
الدوافع والدواعي إليه: في سنة خمس وعشرين من الهجرة، وبعد أن ولي عثمان بن عفان الخلافة، اتسعت الفتوحات الإسلامية، وتفرّق القرّاء في الأمصار، وأخذ أهل كل مصر عمن وصل إليهم من القراء قراءته، ووجوه القراء التي يقرأ ون بها مختلفة باختلاف الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم، فكانوا إذا ضمهم مجلس أو موطن من مواطن الغزو عجب البعض من وجوه هذا الاختلاف، وبلغ عثمان أن المعلم بالمدينة يعلم قراءة الرجل، والمعلم الأخر يعلم قراءة رجل آخر، وجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى وصل الخلاف إلى المعلمين، حتى كفر بعضهم بعضاً، عندها أحس عثمان بالخطر على القرآن، فخطب في الناس، فقال: أنتم عندي تختلفون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافاً.
وفي هذه الأثناء تجمع جيش من العراق، وفيه حذيفة بن اليمان، وجيش من الشام، وتوجهوا لغزو أرمينية وأذربيجان. وفي مسجد من المساجد جلس الجنود يتدارسون القرآن، فسمع حذيفة ابن اليمان رجلاً يقرأ وآخرون يخطئونه فيما يقرأ، يقول أهل الكوفة: قراءة ابن مسعود، ويقول أهل البصرة: قراءة أبي موسى، ويقول أهل الشام: قراءة أبيّ بن كعب، هذا يقول: قراءتي خير من قراءتك، وذاك يقول: بل قراءتي هي الصواب وقراءتك باطلة، وتنازعوا واختلفوا حتى كادت الفتنة تقع بينهم، فغضب حذيفة، واحمرت عيناه، ثم قام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: هكذا كان من قبلكم اختلفوا، والله لأركبن إلى أمير المؤمنين، وما ان انتهت المعارك بالنصر، وعادت الجيوش، حتى توجه حذيفة إلى المدينة ولم يدخل بيته حتى دخل على عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين. قال:الناس. قال: وما ذاك ؟ قال: غزوت أرمينية فإذا أهل الشام يقرأ ون بقراءة أبيّ بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرأ ون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضاً، فتعاظم ذلك في نفس عثمان، واستشار الصحابة، فاستقر رأيهم وأجمعوا على نسخ الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر، وجمع الناس عليها بالقراءات الثابتة على حرف واحد، فأرسل عثمان إلى حفصة يطلب منها الصحف، فأرسلت إليه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت الأنصاري، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشيين، فأمرهم بنسخها في المصاحف، وأن يكتب ما اختلفوا فيه مع زيد الأنصاري بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم، والمقصود أن معظم القرآن نزل بلغة قريش.
وهذا يدل على أن ما صنعه عثمان كان بإجماع الصحابة، وهكذا كتبت مصاحف على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ليجتمع الناس على قراءة واحدة، وقام عثمان برد الصحف إلى حفصة، وبعث إلى كل أفق بمصحف من المصاحف، واحتبس بالمدينة واحداً هو مصحفه الذي يسمى ( الإمام )، وتسميته بذلك لما جاء في بعض الروايات من قول عثمان: ( اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماماً )، وأمر أن يحرق ما عدا ذلك من صحيفة أو مصحف، وقد تلقت الأمة الإسلامية ذلك بالطاعة والاستحسان، وتركت القراءة بالأحرف الستة الأخرى، على اعتبار أن القراءة بالأحرف السبعة ليست واجبة وإنما هي على التخيير والرخصة، كما هو معلوم من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن حُذيفة بن اليمان قدم عَلى عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق.
والسبب الداعي للجمع ولهذا العمل الكبير الذي قام به عثمان وهو اختلاف الناس في وجوه قراءة القرآن حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخُشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخت تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش.
ومما يجب التنبيه إليه أن الأحرف السبعة غير القراءات السبعة التي مازال المسلمون يقرأون بها كما سيأتي بيانه في الجزء الخاص بذلك من هذا المسلسل.
وكان دستور العمل الذي حدده عثمان بن عفان والصحابة في جمع القرآن يعتمد على منهجية رائعة من أبرز مبادئها:
1 – عدم كتابة شيء إلا بعد التحقق من أنه قرآن.
2 – عدم كتابة شيء إلا بعد العلم بأنه استقر في العرضة الأخيرة.
3 – عدم كتابة شيء إلا بعد التأكد من أنه لم ينسخ.
4 – عدم كتابة شيء إلا بعد عرضه على جمع من الصحابة.
5 –معظمه.القرآن بلغة قريش، لأنه نزل بلغتهم.أي معظمه.
6 – عدم كتابة القراءات غير المتواترة.
وبهذا العمل العظيم قطع عثمان دابر الفتنة، وحسم مادة الخلاف، وحصّن القرآن الكريم من أن يتطرق إليه شيء من الزيادة والتحريف على مر العصور وتعاقب الأزمان. تحقيقاً لقوله تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) سورة الحجر: آية 9
عدد المصاحف التي نسختها اللجنة:
سارت اللجنة في عملها بأمانة وإخلاص وهمة عالية، حيث قامت بنسخ خمسة مصاحف أو ستة أو سبعة ثم عرضت هذه المصاحف على مهرة القرآن، ولما اطمأن عثمان إليها قام بتوزيعها على الأمصار، فمن قال: إنها خمسة - وهو المشهور – عدها
( المصحف الكوفي، والمصحف البصري، والمصحف الشامي، والمصحف المدني العام، والمصحف الخاص الذي حبسه عثمان لنفسه، وهو المسمى بالمصحف الإمام ). ومن قال: إنها ستة زاد المصحف المكي، ومن قال: إنها سبعة زاد على الستة مصحف البحرين ومصحف اليمن، وجعل بالمدينة مصحفاً واحداً. وقيل غير ذلك. وهذه المصاحف التي كتبت في عهد عثمان – كما يقول المحققون – لا يكاد يوجد منها مصحف واحد اليوم.
رسم المصحف العثماني والآراء فيه
المراد برسم القرآن هنا كيفية كتابة الحروف والكلمات في المصحف على الطريقة التي كتبت عليها في المصاحف التي أمر عثمان اللجنة الرباعية فكتبتها ووزعتها في الأمصار. ويطلق عليه: رسم المصحف، ومرسوم الخط. وأما الآراء فيه:
الرأي الأول: أن الرسم العثماني ليس توقيفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه اصطلاح ارتضاه عثمان وتلقته الأمة بالقبول، فيجب التزامه والأخذ به، ولا يجوز مخالفته.
الرأي الثاني: أن رسم المصحف اصطلاحي لا توفيقي، وعليه فيجوز مخالفته.
الرأي الثالث: أنه توقيفي لا يجوز مخالفته، وهو مذهب الجمهور.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كُتاب يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن كله بهذا الرسم، وقد أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على كتابتهم وقضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل.
أقوال الفقهاء في الرسم العثماني:
جمهور العلماء ذهبوا إلى منع كتابة المصحف بما استحدث الناس من قواعد الإملاء، للمحافظة على نقل المصحف بالكتابة على الرسم نفسه الذي كتبه الصحابة.
- وقد صرح الإمام أحمد فيه بالتحريم فقال: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك.
- وسئل الإمام مالك: هل تكتب المصحف على ما أخذته الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى.
- وجاء في الفقه الشافعي: إن رسم المصحف سنة متبعة.
- وجاء في الفقه الحنفي: أنه ينبغي ألا يكتب بغير الرسم العثماني.
-وقال الإمام أبو عمرو الداني : ولا مخالف له من علماء الأمة.
وهكذا اتخذت الأمة الإسلامية الرسم العثماني سنة متبعة إلى عصرنا هذا، كما قال البيهقي في "شعب الإيمان": واتباع حروف المصاحف عندنا كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها.
وكان ذلك للمبالغة في المحافظة والاحتياط على نص القرآن، حتى في مسألة شكلية، هي كيفية رسمه.
لكن استثنوا من ذلك نقط المصاحف وتشكيلها، لتتميز الحروف والحركات، فأجازوا ذلك بعد اختلاف في الصدر الأول عليه، وذلك لما اضطروا إلى ذلك لتلافي الأخطاء التي شاعت بسبب اختلاط العرب بالعجم.
تحسين الرسم العثماني
1-تحسين كتابة المصاحف :
كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل اعتماداً على السليقة العربية التي لا تحتاج إلى مثل هذه النقط والتشكيلات، وظلت هكذا حتى دخلت العجمة بكثرة الاختلاط، وتطرق اللحن إلى اللسان العربي، عندئذ أحسَّ أولو الأمر بضرورة تحسين كتابة المصاحف بالتنقيط والشكل والحركات مما يساعد على القراءة الصحيحة.
2- من شكل المصحف:
أ- اختلف العلماء في ذلك، منهم من قال: أبو الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه وضع ضوابط اللغة العربية بأمر من سيدنا علي بن أبي طالب. يروي أنه سمع قارئاً يجر اللام من رسوله في قوله تعالى: { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } [التوبة: 3]، فغير المعنى، ففزع لهذا اللحن وقال: عز الله وجل أن يبرأ من رسوله، فعندئذ قام بوضع ضوابط التشكيل حفاظاً عليه من اللحن.
ب- ومن العلماء من قال: أول من شكل المصحف : الحسن البصري، ويحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم الليثي بأمر من الحجاج.
3- تدرج تحسين رسم المصحف: كان الشكل في الصدر الأول نقطاً، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة نقطة على آخره، والكسرة نقطة تحت أول الحرف، ثم تدرج، فأصبحت الفتحة شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسرة تحته، والضمة واواً صغيرة فوقه، ثم بعد ذلك مر المصحف في طور التجديد والتحسين على مر العصور حتى استقر على هذا الشكل الذي هو عليه الآن من الخطوط الجميلة الواضحة، وابتكار العلامات المميزة، والاصطلاحات المفيدة، فجزى الله من سبقونا في خدمة قرآن ربنا خير جزاء.
ترتيب آيات القرآن وسوره:
1- تعريف الآية: لغة أصلها بمعنى العلامة، ومنه قوله تعالى: { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ } [البقرة: 248]. وأما اصطلاحاً فهي قرآن مركب من جمل ولو تقديراً، ذو مبدأ و مقطع، مندرج من سورة.
2- تعريف السورة: لغة من سور المدينة، أو من السورة بمعنى المرتبة والمنزلة الرفيعة. وأما اصطلاحاً فالقرآن يشمل على آيٍ ذوات فاتحة وخاتمة . وأقلها ثلاث آيات.
3- حكمة تقسيم القرآن إلى سور وآيات : منها أن القارىء إذا ختم سورة أو جزأً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله. ومنها أن الحافظ إذا حَذَق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة، فيعظم عنده ما حفظه، ومنه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ فينا.
4-مصدر ترتيب القرآن الكريم: أجمع العلماء سلفاً فخلفاً على أن ترتيب الآيات في السورة توقيفي، أي اتبع فيه الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، لا يشتبه في ذلك أحد. والأحاديث في إثبات التوقيف في ترتيب الآيات في السور كثيرة جداً تفوق حد التواتر، إلا أننا سنذكر أمثلة منها: أخرج البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } [البقرة:234] قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا أبن أخي لا أغيرّ شيئاً منه من مكانه. وأخرج الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شَخَص ببصره ثم صوَّبه، ثم قال: " أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...} [النحل: 90] إلى آخرها.
5- ترتيب سور القرآن: جماهير العلماء على أن ترتيب سورة القرآن توقيفي، وليس باجتهاد من الصحابة. والأدلة على أن ترتيب السور كلها توقيفي كثيرة جداً نذكر منها: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، إنهن من العتآق الأول، وهن من تلادي. فذكر ابن مسعود السور نَسَقاً كما استقر ترتيبها. وقوله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مؤلف من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد.
ويشهد لذلك من حيث الدراية والعقل واقع الترتيب وطريقته، وذلك من وجهين لا يشك الناظر فيهما، أن الترتيب بين السور توقيفي:
الأول: مما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت ولاءَ، وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاءً، وأخرت طس عن القصص.
الثاني: ما راعاه العلماء الأئمة في بحوثهم من التزام بيان أوجه التناسب بين كل سورة وما قبلها، وبيان وجه ترتيبها.