Admin Admin
المساهمات : 322 تاريخ التسجيل : 24/06/2012
| موضوع: خرافة لا داخل العالم ولا خارجه الأربعاء يوليو 04, 2012 6:41 pm | |
| خرافة لا داخل العالم ولا خارجه وهو جواب على رسالة (حسن المحاججة) بقلم وضاح الحمادي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.. فهذه كلماتٌ قليلاتٌ توضح الحق في هذه المسألة، التي هي من مسائل الاعتقاد، والتي يورد عليها أهل البدعة بعض السؤالات والاستشكالات، ظانين جهلاً منهم أن ما يوردونه كافٍ لزعزعة عقائد أهل الحق. ولم يكن قصدنا تفصيل المقام، بل توضيح جملةٍ كافيةٍ لبيان معاني كلمات أهل السنة والجماعة وبعض أدلتها، ودفع تلبيسات المبتدعة من المشبهة والمجسمة. ندعو الله تعالى أن ينفع بها.. الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه أقول: ابتدأ الكلام بمسألة الدخول، ثم ثنى بالخروج، فجاريناه عليه، لا أننا نقول بالدخول والخروج بحسب المفاهيم التي ذكرها فودة، بل على أن فودة وغيره من الجهمية لا يقدرون على إقامة الدليل على نفي الدخول والخروج وفقاً لأصوله، فليس في كلام أهل السنة أن الله داخل العالم أصلاً لنقول به، ولكنا ناقضناه لبيان ضعف أدلته كما تفعل الأشاعرة مع المعتزلة حين يقولون، لا يمكن إثبات حدوث العالم ووجود الله جل وعلا على أصول المعتزلة، لا أن الأشاعرة ينكرون حدوث العالم ووجود الله، بل يريدون بيان خطأ الأصول التي بنى عليها ا لمعتزلة مذهبهم. فنقول: قال فودة : "قد يحتج بالكتاب على ذلك فيقال: قوله تعالى: (ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير) حجَّةٌ على عدم كونه خارج العالم، وعلى عدم كونه تعالى داخل العالم. وهذا استدلال جيِّد. وبيان وجه الاستدلال أن يقال –كما ذكره ابن مرزوق عن العلامة أبي عبد الله بن الجلال-: (لو كان في العالم أو خارجاً عنه لكان مماثلاً، وبيانُ المماثلة واضح، أما في الأول: فلأنه إن كان في العالم صار من جنسه، فيجب له ما وجب له). قلتُ : أي صار من قبيل الأجسام ومادة العالم؛ لأنه إن كان داخل العالم فيكون جزءاً منه، وما كان جزءاً من شيء كان مماثلاً له في الجنس، فالورقُ مثلاً ليس من جنس الحديد إلا باعتبار أن كليهما أجسام ومواد، ولذا لا يمكن أن يكون الورق جزءاً من الحديد، وكذا الطير ليس جزءاً من الأحجار لاختلاف الجنس، إلا باعتبار أن كليهما أجسام. أقول: يكفي في إبطال ما ذكر عدم التسليم، فلا نسلم أن ما كان في الشيء كان من جنسه كما قاله الجلال، ولا أنه جزء منه كما قاله فودة، بمعنى أنه يتركب منه ومن باقي الأجزاء جملة العالم. أما المثال الذي ضربه فودة فهو دليل على ضعفه في العلم، فإنه لا يتضح به إن أراد نفي مماثلة الورق للحديد لأنه ليس فيه، أو إثبات مماثلة الورق للحديد لكونهما في العالم، وكذا الطير والحجر. على أن وجود الورق في الحديد والطير في الحجر ممكن، إما بالصناعة أو بالمعجز. فإن قال: على فرض حصول ذلك بالصناعة أو المعجز لا يفيد، لأن الورق لا يصير من جنس الحديد ولا الطير من جنس الحجر على الفرض المذكور، وإنما يكون كذلك إن كان من طبيعة المحوي أن يكون في الحاوي بحسب تعبير الفلاسفة ومن وافقهم، أو إذا كانت العادة جارية بكون المحوي حاصلاً في الحاوي، بحسب تعبير الأشعرية. قلنا: فهذا دليل بطلان قولكم: (إن كان في العالم صار من جنسه) فإذا جاز إيجاد الورق في الحديد والطير في الحجر من غير أن يصير الداخل من جنس الحاوي له، فكذلك في الباري على فرضكم، وبخاصة على قول الأشعرية لجواز حصول المحوي في الحاوي مع عدم كونه من جنسه، ولا محذور سوى كسر العادة، وهو ممكن. وعلى فرض تسليمه: ما مرادكم بصيروته من جنسه؟ إن قلتم: صار يشبهه. قلنا : من كل وجه أو من وجه دون وجه؟ إن قلتم : من كل وجه. أبطلناه عليكم بما ذكرتم من المثال، فإن الورق والحديد والطير والحجر كلها في العالم، وهي وباقي أجزاء العالم ليست متشابهة من كل وجه. وإن قلتم : من وجه دون وجه. قلنا : فتلك الوجوه التي حصل بها المشابهة قد لا تكون هي المقصودة بالآية، فإنه سبحانه أثبت في نفس الآية أنه السميع البصير، وفي خلقه ـ الذين هم من جملة العالم ـ من هو كذلك، وهذا القدر لا ينفي قوله جل وعلا (ليس كمثله شيء). وإن قلتم: نريد بصيرورته من جنس العالم أن حقيقة ذاته وحقيقة ذات العالم تصيران من جنس واحد. قلنا : لا نسلمه أيضاً، إذ قد يجوز أن يكون وجوده في العالم من جنس وجود الروح في الجسد، مع أن حقيقة الروح غير حقيقة الجسد. وإن قلتم : نريد أن حقيقته تكون جسم ومادة كما أن جميع أجزء العالم جسم ومادة. قلنا : لا نسلمه، وما الدليل عليه؟ ثم أنه قد حقق كثير من الأشاعرة أن الروح ليست بجسم، فإما أن تكون من جملة العالم أو لا تكون، فإن كانت من جملة العالم فقد بطل قولكم، وإن لم تكن من جملته فقد بطل قولكم أيضاً. بيانه أن النصوص جاءت بأن الروح تصعد وتنزل وتدخل وتخرج، فإن لم يجعلها ذلك من جنس العالم فكذلك الباري جل وعلا على هذا القول. على أن منهم من يقول في الروح الإنساني أنه جوهر مجرد ليس داخل العالم الجسماني ولا خارجه، لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه. فيقال له : قد جاءت النصوص كما قدمنا بأن الروح تدخل البدن وتخرج منه، وأنها تصعد إلى السماء وتعود إلى الأرض، وهذا كله دخول في العالم. فإن قلتم إن الدخول هنا ليس هو من جنس دخول الأجسام والأعراض. قلنا : فقولوا مثل ذلك في دخول الباري. على فرض تسليمه. وملخص الرد عليه عدم التسليم، إذ لم يأتوا هنا بسوى الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلاً. ثم لو سلمناه وقلنا يلزم كونه جسماً ، فإنه لا يدل على المشابهة عند القائل به إلا على القول بتماثل الأجسام، وهي مسألة مبنية على القول بتماثل الجواهر، والخلاف فيها طويل ، ولا دليل مستقيم على أنها متماثلة ، وممن قال باختلافها النجراني صاحب (الكامل) ونقله عن جمع من المعتزلة ، فإن صح هذا فكونه جل وعلا جسماً ـ كما تزعمه الهشامية ومن وافقهم من ضلال المشبهة ـ لا يعني مشابهته للأجسام. فبان لك أنهم لا يقدرون وفقاً لقواعدهم الرد حتى على المصرحين بالتجسيم كالهشامية. وليس غرضنا ـ كما تقدم ـ إثبات الدخول، بل إثبات أن المتلكمين لا يمكنهم تقرير قاعدتهم هذه بدليل جارٍ على أصلهم. قال ابن الجلال (وأما في الثاني: فلأنه إن كان خارجاً لزم إما اتصاله وإما انفصاله: إما بمسافةٍ متناهية أو غير متناهية، وذلك كله يؤدي لافتقاره إلى مخصص) انتهى كلام العلامة. نقول: هنا جوابان؛ إجمالي وتفصيلي: أما الإجمالي فنقول: إنما يصح ذلك في الأجسام على حد زعمكم، ونحن لا نثبته جسماً فلا يلزمنا ما ذكرتم. أما التفصيلي: فمن جهتين أيضاً، والأول مبني على قول الفلاسفة أنه ليس خارج العالم لا خلاء ولا ملاء، فلا يتصور هناك حيز ولا مكان لا عدمي ولا غيره، وإن لم يكن هناك حيز ولا مكان، لم يكن هناك مسافة أصلاً ، فضلاً عن وصفها بالمتناهية وغير المتناهية، فإذا قلنا بذلك بطل هذا الإلزام. أما الوجه الثاني فنقول: أولاً إن كون الشيء الخارج عن غيره إما متصل به أو منفصل عنه بمسافة لا يتأتى إلا إذا أردنا بالخروج الإنفصال بين ذوي السطوح الغير متداخلة خاصة، فمن أين لكم أن الخصم أراد بخروجه عن العالم هذا المقدار؟ فلعله أراد بالخروج المباينة وعدم المخالطة وكون الله جل وعلا غير حال بذاته في خلقه لا بمخالطة ولا بغيرها، كما قال الإمام عبدالله بن المبارك حين سئل : "بماذا نعرف ربّنا ؟ قال : بأنّه فوق سمواته على عرشه ، بائن من خلقه" وقد صرح بالمباينة غير واحد من كبار الأئمة كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والدارمي وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيين وغيرهم كثير. وقال الإمام الأشعري رحمه الله : "وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه دون أرضه" (الرسالة إلى أهل الثغر) ص 232. فهذا الخروج خروج حقيقي، ولا يقتضي عندكم الإتصال ولا الإنفصال. سلمنا أنه يقتضي إما الإنفصال أو الإتصال، فكان ماذا؟ قول ابن الجلال : (يؤدي لافتقاره إلى مخصص) نقول : لا نسلمه، فإنكم تقولون إن الله يتصف بالسمع والكلام، وبالضررورة نعرف اختلافهما من غير وجود مخصص؛ فلماذا لا يجوز أن يكون متصلاً أو منفصلاً بمسافة ما أو بغيرها من غير احتياج إلى مخصص؟! سلمنا الاحتياج إلى مخصص، فلماذا لا يكون ذلك المخصص هو العلم والقدرة والإرادة ؟ إن قيل: لأن تعلق العلم والقدرة والإرادة توجب كون المتعلق به حادث والباري ليس بحادث. قلنا: أما إيجابها كون المتعلق به حادث، فنعم، ولكن الكلام في المسافة المعينة، لا في الباري، فتكون المسافة هي الحادثة. قال فودة : "قلتُ: الناسُ الذين يقولون إن الله تعالى خارج العالم ويفهمون حقيقة هذا القول، هم مجسمة، سواء اعترفوا بهذا أم لا؛ لأنهم يقولون إن الله تعالى خارج العالم في جهة من العالم، وهي جهة الفوق، ويقولون: إن هذا هو المكان الذي نقول إن الله تعالى فيه!!" إنظر إلى هذا الكلام ما أسمجه، فإنه ليس من باب العلم لا في قليل ولا كثير، فإنه ادعى دعوى ثم استدل عليها بدعوى أخرى من غير إبراز دليل يصحح به دعواه، كأنما ألقى الشيطان في خلده أن دعاواه المجردة كالقرآن في وجوب الاتباع؟! أما دعواه الأولى فقوله : "قلتُ: الناسُ الذين يقولون إن الله تعالى خارج العالم ويفهمون حقيقة هذا القول، هم مجسمة، سواء اعترفوا بهذا أم لا" فما هو الدليل على أن من قال : إن الله خارج العالم مجسم؟ لقد علل دعواه الأولى بدعواه الثانية وهي قوله : "لأنهم يقولون إن الله تعالى خارج العالم في جهة من العالم، وهي جهة الفوق، ويقولون: إن هذا هو المكان الذي نقول إن الله تعالى فيه!!" هذه الدعوى التي ابتدأها بقوله "لأنهم" مشيراً إلى أنها العلة في دعواه الأولى هي بعينها الدعوى الأولى مع زيادة إيهام الباطل؛ فإن القول بأن الله خارج العالم هو بعينه القول بأنه الله فوق العالم، فصار الدليل على دعواه الأولى هو عين دعواه الأولى بلفظ مختلف. أما دعواه أن من يقول بأن الله خارج العالم يقول بأن جهة فوق هو المكان الذي يكون الله فيه. فإن أراد بالمكان شيء وجودي وبقوله "فيه" الظرفية فقد كذب في الأمرين جميعاً، وإلا فليصحح دعواه بالنقل عن خصمه. وإن أراد بالمكان الجهة فقط وبقوله "فيه" أي وجود ذات الله جل وعلا متحققة فوق العالم فقط من غير أن يكون محوياً؛ كان حاصل كلامه أن الذين يدعون أن الله خارج العالم فهم مجسمة لأنهم يدعون أن الله فوق العالم ويقولون أنه موجود فوق العالم. وإذا عرفت أنه ليس للعالم سوى جهتين ، خارجه ومركزه ، وأن فوق وخارج بالنسبة للعالم متفقان ، صار حاصل الكلام : "إن الذين يقولون أن الله فوق العالم فهم مجسمة لأنهم يدعون أن الله فوق العالم ويقولون أنه موجود فوق العالم" إنظر إلى هذه المحصلة السخيفة من كلامه التي تنبيك عن مبلغ علم هذا الغر الصغير! هذا مع مافيها من إيهام أن خصمه يثبت مكان وجودي ظرفي، والله جل وعلا فيه مظروف!! ثم هب أن هناك من يقول بأن الله فوق العالم، وأن هناك ثم مكان يحوي الكائن فيه، فما الدليل على أن هذا تجسيم؟ إن قال: إن المحوي لا يكون إلا جسماً، لأن معنى كونه محوياً أن له حدوداً كلها حاصلة في الحاوي بحيث يكون ظرفاً للمحوي. قلنا : هذا منقوض بالجوهر والروح ، فإن الجوهر في العالم محوي به وليس بجسم ولا ذي سطوح. والروح في البدن وفي العالم من باب أولى وليست بجوهر مادي ولا بذي سطوح. فإن قال : الروح ليست بداخل البدن ولا خارجه وهكذا هي ليست بداخل العالم ولا خارجه. قلنا : مع ارتكابكم مخالفة النصوص، فقد أبطلتم استدلالكم كما تقدم، فصار الباري تعالى عن قولكم، على كل تقدير مشابهاً للعالم، فإنه إن كان داخل العالم كان من جنسه بزعمكم، وإن كان خارجاً عنه افتقر إلى المخصص، وإن لم يكن لا داخله ولا خارجه صار من جنس الأرواح ؟! فكيفما قدَّرتم الجواب صرتم مشبهة! فعلم بذلك أن الوجود في العالم لا يقتضي أن يكون الموجود فيه جسماً. إن قلتم: فإنه يقتضي أن يكون إما جسم أو عرض. قلنا : لا نسلمه، إذ قيام العرض بالجسم عندكم ضروري، إذ لا يخلو العرض قط عن كونه قائما في جسم، وليس كذلك الباري جل وعلا، بل هو مستغنٍ عن العالم قائمٌ بذاته، فإن فرضنا دخوله في العالم، بحسب فرض ابن الجلال وفودة، فإنه دخول المستغني القائم بنفسه، لا دخول المضطر القائم بغيره شأن العرض. قال فودة : "ويحتجون على هذا بأن يقولوا: إن من يتصف بأنه لا خارج العالم ولا داخل فهو معدوم؛ لأنه لا يتصور وجود شيء لا داخل العالم ولا خارجه. فمن حيث الاحتمالُ العقلي عندهم، إما أن يكون داخل العالم أو يكون خارجه، ويبطل أن يكون داخل العالم، فوجب أن يكون خارجه، وما دام وجبَ كونه خارج العالم فقد وجب كونه في جهةٍ، والجهات متعددة، ويستحيل أن يكون تحت العالم أو يمينه إلى آخره، فوجب أن يكون فوقه؛ لأن هذه الجهة جهة كمال، وهي التي تليق بالله تعالى، فصار معبودهم بعد هذا البيان خارج العالم، وفي جهة الفوق، هذا حاصل كلامهم" في هذا الكلام دعوى باطلة على خصمه، فإن الخصم لا يقول بأن هناك جهات متعددة بالنسبة إلى العالم ككل، بل ليس هناك سوى خارج ومركز، شأنه شأن الكرة، فليس للكرة جهات ست، ولكن الجاهل قاس العالم على نفسه ومن كان في مثل حاله، فإن الإنسان مثلاً له وجه يقابل به الناس وظهر يستدبر به الناس ويمين وشمال يُحاذي بهما الناس، ورأس ورجلين. فما كان بقبالة وجهه فهو أمام وما استدبره بظهر فهو خلف، وهكذا باقي الجهات، وليس العالم هكذا، لأنه كري الشكل لا يحتمل إلا جهتين باعتبار سطحه ومركزه فقط. ومن جهة أخرى القائل بأن الله جل وعلا خارج العالم وفوق العالم لا يستدلون بهذه القسمة العقلية ابتداءً، بل بنصوص الوحي، كقوله جل وعلا: (الرحمن على العرش استوى) و (ثم استوى على العرش) و(إليه يصعد الكلم الطيب) و(يخافون ربهم من فوقهم) و (أئمنتم من في السماء) و (تعرج الملائكة والروح إليه) وما لا يحصى وليس هذا موضع بسطها. ولا خلاف بيننا وبين الجهمية كفودة وأصحابه في دلالتها على العلو والجهة، لذا يلجأ الجهمية إلى التأويل الذي هو صرف اللفظ عن دلالته الظاهرة إلى أخرى غير ظاهرة، فلو لم تدل نصوص الوحي على علو الله جل وعلا وعلى جهة فوق، لم يحتاجوا إلى تأويلها. ونحن نبقيها على الدلالة الظاهرة لإجماع السلف على حملها على ذلك، فقد اشتهر عنهم رضي الله عنهم (أمروها كما جاءت)، وعليه إن جاءت ظاهرة في العلو والجهة وجب إبقاء دلالتها على ذلك، وإلا لما أمررناها كما جاءت. وقال البغوي إمام الشافعية في زمانه رحمه الله عند كلامه على بعض أحاديث الصفات : " هذه ونظائرها صفات لله تعالى ورد بها السمع يجب الإيمان بها ، وإمرارها على ظاهرها معرضا فيها عن التأويل ، مجتنبا عن التشبيه" (شرح السنة) 1/170 وقد نقل القرطبي إجماع السلف على إثبات الجهة، فقال : " وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته" ونقله أيضاً ابن رشد حيث قال في (مناهج الأدلة) صفحة 145 : "أما هذه الصفة ـ أي الجهة ـ فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية" أما الاستدلال بالعقل على ذلك فليس في كلامهم، لكن بعضهم اعترض بالعقل على نفاة العلو والجهة بنحو ما ذكره فودة، لا أنهم استدلوا به على إثبات العلو والجهة، لأن العقل عندهم لا مدخل له في إدراك الصفات لكونها من الغيب الذي لا يعرف إلا بالوحي. وهم لا ينكرون دلالات العقول، ولكنهم لا يصفون الله بدلائلها حتى يأتي النص مصدقاً بذلك، لاختلاف العقول أشد الاختلاف، حتى جوزت أن يكون لله صاحبة وولد، وجوزت عبادة الحجر والبقر، فإذا كان العقل قد يقع في مثل هذه السخافات، كان لا بُدَّ له من أمر يعصمه ويرجع إليه، وهو عندنا الكتاب والسنة. أما الدليل العقلي الذي نقله عن خصومه هنا فحاصله أن الدخول والخروج في الشيء الواحد والزمان الواحد هو كالوجود والعدم، فكما لا يجوز أن يكون الشيء موجوداً معدوماً في زمان واحد، فلا يجوز أن يكون داخلاً خارجاً في شيء واحد وزمان واحد؛ فإن لم يكن داخلاً فهو خارج وإن لم يكن خارجاً فهو داخل. فإذا لم يكن الله تبارك وتعالى داخل العالم فهو خارج العالم بلا شك. وهذه قضية ضرورية يجدها كل إنسان في نفسه، حتى فودة. لكن بطر الحق وغمط الناس يفعل أكثر من هذا. ويكفي لدفع فودة للإعتراف أو السكوت أن تسأله : هل وجود الله جل وعلا ذهني فقط أو له وجود في الخارج؟ إن قال : وجوده ذهني فقط؛ كفر. وإن قال : له وجود في الخارج. أثبت لله الخروج الذي ينافح هنا لنفيه. وحينئذٍ نعترض عليه بما اعترض به ابن الجلال على خصومه فنقول له: لو كان خارجاً عن الذهن فإما أن يكون متصلاً به أو منفصلاً عنه بمسافة، والأول يقتضي كونه من جنس ما في الأذهان، والثاني يؤدي إلى الاحتياج إلى المخصص. فإن تعلل بأن خروجه من الأذهان ليس من جنس خروج الأجسام عن الأذهان. قلنا: فهلا قلت في خروج الله جل وعلا عن العالم مثل ذلك. لكن دعنا لا نعترض ونرى بماذا يجيب فودة. قال فودة : "فنقول وبالله التوفيق: كلامهم هذا متهافت، ويدلُّ على سخف عقولهم، ولا يغترُّ به إلا جاهل، لا يفهم معاني الألفاظ ولا يعقلها."
لننظر إلى بعض من وصفهم الأنوك بتهافت الكلام وسخف العقول:
قال الإمام المفسر محمود الألوسي : "وأيد القول بالفوقية أيضا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك فانه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفا بضد، ذلك لأن القابل للشيء لا يخلوا منه أو من ضده، وضد الفوقية السفول، وهو مذموم على الاطلاق. والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعا، وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات، فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا اجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى" انتهى من (روح المعاني) 7/115. وحاصل كلامه رحمه الله أن كون الخالق إما داخل العالم أو خارجه معروف ببديهة العقول، وأنه من الضروريات. فيكون الجهمية كفودة وسلفه منكرين للبديهيات الضروريات. وهذا الذي نقلناه عن الألوسي قاله الإمام أحمد في (الرد على الجهمية) وكذا نقله الرازي عن الكرامية والحنابلة في كتابه (أساس التقديس). ولو كان فودة يجري على طريق الإنصاف، لاكتفى بتخطئة هذا الإستدلال دون أن يستخف بالمستدل به. ويا ليته حين استخف هذا الإستخفاف جاء بما يبطله قطعاً وببادي النظر، ولكن انظر ماذا قال: قال فودة : "فالله تعالى كان قبل كل شيء، والعالم كله بما فيه مخلوق، والعالم له بداية لم يكن قبلها موجوداً، فقبل أن يخلق الله العالم هل كان في جهةٍ أو كان في مكان ؟! الكل متفق على أن المكان والجهات كلها مخلوقة، ومن قال غير هذا فقد كفر بملة الإسلام، فالله تعالى كان ولم يكن شيء غيره فنحن في هذا الحال نسأل هؤلاء المجسمة: هل كان لله خارجٌ وداخلٌ ؟ إن قالوا: نعم، كفروا، وأقروا على أنفسهم بأن الله محدودٌ وله جهاتٌ ومكانٌ، وقائل هذا كافرٌ في هذه الحال" أقول: قوله "ألكل متفق على أن المكان والجهات كلها مخلوقة" خطأ وهي مسألة بسيطة صغيرة في علم الكلام لا يعرفها فودة، فليته حيث جهل سكت. ذلك أن الجهات أمور نسبية اعتبارية لا تحقق لها في نفسها، والمكان في عرف المتكلمين قد يطلق ويراد به الحيز المشغول أو السطح المماس للمتحيز، ونحو ذلك. فإن أردنا الحيز المشغول فهو غير موجود بل مقدر في الذهن فقط. وإن أراد السطح المماس فهو إما حقيقي كسطح الإناء الداخل المماس لسطح الماء الخارج، أو تقديري كسطح العدم المقدر في الذهن مماساً لسطح العالم الخارج، وهذا الثاني غير مخلوق. ثم انظر إلى جرأته على تكفير الناس في مسألة لا يحسنها. فإن قال : أنا إنما أردت بالمكان المعنى اللغوي لا العرف الإصطلاحي، كنحو البيت والمسجد والكرسي والعرش، وأردت بالجهة نفس المشار إليه. قيل له : هذ يبطل عليك استدلالك، فإن خصمك مع إيمانه بأن المكان والجهة بهذين المعنيين مخلوقين، يقول: إن الله جل وعلا فوق العالم حيث لا مكان مخلوق ولا مشار إليه مخلوق، وإلا كان خارج العالم ليس بخارج العالم. قال ابن رشد في (مناهج الأدلة) صفحة 145- 146 : "والشبهة التي قادت نُفاة الجهة إلى نفيها، هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان إثبات الجسمية. ونحن نقول هذا كله غير لازم، فإن الجهة غير المكان. وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به، وهي ستة. وبهذا نقول إن للحيوان فوق وأسفل، ويميناً وشمالاً، وأمام وخلف. وإما سطوح جسم أخر محيط بالجسم، ذي الجهات الست. فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلاً. وأما سطوح الأجسام المحيطة به فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضاً مكان للهواء، وهكذا الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له. وأما سطح الفلك الخارجي، فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم، لأنه لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم جسم آخر ويمر الأمر إلى غير نهاية. فإذاً سطح آخر أجسام العالم ليس مكاناً أصلاً، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم أصلاً، لأن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسم. فإذاً: إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة، فواجب أن يكون غير جسم. فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه القوم، وهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم" انتهى كلامه.
وما أظن فودة يفهم هذا، فإنه يكتب ويعترض بما يستحي منه صغار الطلبة في علمي الكلام والفلسفة. ولولا أن الأجهل منه موجود، لما كان له أتباع أصلاً.
وقول فودة : " فنحن في هذا الحال نسأل هؤلاء المجسمة: هل كان لله خارجٌ وداخلٌ ؟ إن قالوا: نعم، كفروا، وأقروا على أنفسهم بأن الله محدودٌ وله جهاتٌ ومكانٌ، وقائل هذا كافرٌ في هذه الحال"
أقول: الرجل فيما يظهر مولع بالتكفير، فيكفر بما لم يكفر به سلفه من الجهمية، فقد قال الدسوقي في (حاشيته على أم البراهين) صفحة 109 : "ومن المعتقد أنه جسم لا كالأجسام فهو عاصٍ غير كافر،... وأراد بأضرابهم الجهوية القائلين إن الله في جهة الفوق، وفي كفرهم قولان، والمعتمد عدم كفرهم"
وهكذا رجحوا أن الكرامية ليسوا بكفار، مع تصريحهم بالحد، ولو من جهة أسفل فقط.
ويا ترى ماذا يقولون في ابن المبارك وقد صرح بالحد؟ ووافقه عليه أحمد ابن حنبل رحمه الله. أتراهم يقولون : في كفرهما قولان!!
أما سؤال : "هل كان لله خارج وداخل"
فللجواب عليه لا بُدَّ أولاً من أن يبين مقصوده بالداخل والخارج؟
فإن قال : أريد بالداخل المحوي والمخالط وبالخارج المباين المتصل أو المنفصل بمسافة.
قلنا : هذا لا يكون إلا في الجسم، ونحن لم نقل بأنه جسم حتى يلزمنا الدخول أو الخروج بهذا المعنى، فما معنى السؤال عنه؟ ثم ما علاقة هذا فيما نحن فيه؟
أما تكفير من يقول بأن لله حد بمعنى أنه غير مخالط لخلقه، وبأنه في جهة فوق وبأن له مكان بمعنى أنه مستوٍ على عرشه، فهو تكفير لسلف الأمة جميعاً.
ثم قال : "ونسألهم: هل يمكن أن يتصور العقلُ في هذه الحالة وجود جهات وأبعادٍ وغير هذا من توهمات ؟ إن قالوا: نعم، كفروا، وتناقضوا أيضاً"
سبحان الله!! أنظر ما أهون التكفير عنده.
الجهات والأبعاد إن أراد تصورها في ذات الله جل وعلا، فهو مما لم يأتِ به الشرع، ونحن لم نقل بأنه جسم ذو أبعاد حتى يلزمنا هذا السؤال فضلاً عن استلزام التكفير به . وإن أراد به في غير الذات فنعم، فإن تصور الأبعاد الثلاثة في العدم السابق على خلق العالم ممكن، إلا على قول من نفى الخلاء والملاء خارج العالم كالفلاسفة.
على أن هناك من أثبت الأبعاد الثلاثة في ذات الله جل وعلا، كالهشامية بل نقل عن الكرامية وغيرهم، والرد عليهم بمجرد التكفير لا يفيد في هذا الباب، ولكن عليه كأحد المتكلمين أن يبين بالبرهان وجه بطلان قول المخالف، وسبب تكفيره، لا الاكتفاء بالتكفير. وكيف يسمى مجرد الرد على الخصم بتكفيره (حسن المحاججة) ؟!!
على أن القول بالحد في الذات منقول عن الكرامية وتقدم معك أن الراجح عند الأشاعرة عدم تكفيرهم.
أما تصور الجهة في غير الذات فممكن أيضاً بالتقدير أو الفرض، والمتكلمون أثبتوه عند استدلالهم على حدوث العالم فقالوا : إن الجوهر تحله الأكوان وجعلوا منها الكون في الجهة ، وأوردوا اعتراضاً وهو أن الجوهر حال كونه وحده ليس هناك جوهر آخر فليس هناك جهة. فأجابوا بأن الجوهر حال كونه وحده يمكن تقديره في جهة لجواز تقدير وجود جوهر آخر ، فذلك الآخر إما أن يقدر مجتمعاً به أو مفارقاً له في الحالين يكون في جهة منه، قالوا : ولولا صحة قبوله للجهة لما صح هذا التقدير.
وعلى فرض أن تصور ذلك قبل خلق الخلق غير ممكن، فبعد خلق الخلق ممكن، فكان ماذا؟
قوله: "فنقول: ولما خلق الله العالم كيف تقولون إنه خلقه تحته وصار هو فوقه ؟!! إذن الله تعالى بعد أن لم يكن محدوداً جعل نفسه محدوداً ! الله تعالى بعد أن لم يكن له تحتٌ صار له تحتٌ ! الله تعالى بعد أن لم يكن في جهة صار في جهة ! الله تعالى بعد أن لم يكن في مكان صار في مكان ! إذن الله تعالى تأثَّر بوجود العالم وصار محدوداً وفي مكان وفي جهةٍ .. إلخ، وهذا في غاية القبح منكم أن جعلتم المخلوق يؤثر في الخالق، فسبحان الله، ثم تزعمون أنكم تنزهون الله تعالى !! كلا، إنكم مشبهون، تصفون الله تعالى بصفات النقص، التي يتنزه عن مثلها المخلوق."
هذه سخافات ، لولا أنا نقصد بما نكتب المغرورين به لكان الإعراض عما ذكره جملة خير من تعقبه فيه.
وقد تقدم معك أنا لو فرضنا أنه لا جهات ولا أمكنة قبل خلق الخلق، فمن أين له أنه لا جهات ولا أمكنة بعد خلق الخلق؟ إن قال : أردت الجهات والأمكنة بالنسبة لله جل وعلا، فإنه إن لم يحل في العالم، فهو باقٍ على حاله قبل خلقهم، فكما لم يكن في جهة ولا مكان قبل خلقهم فهو كذلك بعد خلقهم.
قلنا : تقدم معك الكلام والمقصود بالجهة والمكان من قبل، فإن أراد أن المكان الوجودي المخلوق والجهة التي هي بمعنى عين المشار إليه كما لم يحوياه جل وعلا قبل خلقها فكذلك بعد خلقها؛ سلمناه، فكان ماذا.
وإن أراد بالجهة والمكان مجرد النسبة الإضافية، فكذب، بل صار بجهة فوق بالنسبة للعالم خاصة بعد أن لم يكن هناك عالم هو له بجهة فوق، وعلا على العرش جل شأنه بعد خلقه لا قبل خلق.
وهو كقول الأشاعرة ومن وافقهم، صار خالقاً للعالم بعد أن لم يكن خالقاً، وهكذا كلامهم في المتعلقات، فإنها عندهم تتغير بتغير الحوادث.
"ونقول : الله تعالى لا نسبة بينه وبين الخلق، لا في جهةٍ ولا مكانٍ ولا زمان، ولا شيء من الصفات"
قلنا : لا نسلم، بل نقول بأنه هناك نسبة، كالنسبة الزمانية مثلاً، وهو كوجوده قبل وجود العالم، ومقارنة وجوده لوجود العالم، وبقاء وجوده بعد عدم العالم، فهذه نسب زمانية. أما ما يذكرونه من تقدم بالذات فلا حقيقة له ، ولا يمكن تصوره أصلاً، ومع ذلك فهي نسبة بين ا لمتقدم بالذات والمتأخر بالذات كانت بعد وجود المتأخر لا قبله.
وكعلوه على العالم، فهذه نسبة باعتبار الجهة.
إلا أن تريد بالنسبة أمر آخر، فبينه نتكلم فيه.
"ثم نقول : أنتم تزعمون أنكم عرفتم بالعقول أن كل موجودين فلا بد أن يكون واحدٌ منهما في جهةٍ من الآخر. فنسألكم: هذا الكلام العام كيف عرفتموه ؟ وما دليلكم عليه ؟ والمعلوم أن القضية الكلية تعرف إما بالاستقراء أو بقياس عقلي برهاني لا يردُ عليه استنثاء"
أقول: تقدم عن الألوسي ونقله الرازي عن بعض الحنابلة والكرامية أن هذه القضية بديهية ضرورية. ونحن لا نكلف إقامة البراهين على البديهيات الضروريات ، وإلا لم تكن بديهيات وضروريات.
ولا دافع له عندكم، أما مجرد وجود جماعة من العقلاء قالت بخلافه، فإن هذا لا ينفي البديهيات والضروريات، وهو كقول النصارى بأن الله جل وعلا ثالث ثلاثة، من غير أن يكون هناك كثرة عددية، فهو مع كونه ثالث ثلاثة فإن الثلاثة واحد على الحقيقة، ومع أن كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة يخالف الآخر بحقيقته حتى أنه لا يجوز عندهم أن يقال: إن الذي صلب هو الآب أو الروح القدس، ولا أن الذي نزل على المسيح بعد تعميده هو الآب أو الإبن، ولا أن الذي يعرف الساعة الأخيرة هو الإبن أو الروح القدس، فإن كل أقنوم هو عين الأقنوم الآخر من جهة حقيقة الذات والماهية.
فهذا الكلام يُعرف بالبديهة والاضطرار بطلانه، وقول طائفة عظيمة من العقلاء به كالنصارى لا ينفي أن العلم ببطلانه بديهي أو ضروري. ثم ، ما الدليل على أن الموجود القائم بنفسه يجوز أن يكون لا داخل ولا خارج؟
وقد قرأت عدداً من كتبهم ولم أرهم احتجوا لجواز ذلك إلا بكونه ليس بجسم ولا عرض.
وهذا كما ترى وتقدم معك غير ما مرة لا يدل على المطلوب، على أنهم مختلفون في معنى الجسم والعرض اختلافاً كثيراً عجيباً يمنع من الاستدلال بهما على الخصم قبل الاتفاق على معنى صحيح لهما، وهذا الاتفاق ليس بحاصل.
قال : "فإن ادعيتم أنكم عرفتموه بالاستقراء، فأنتم كاذبون؛ لأنكم لم تدركوا قطعاً كل المخلوقات الجسمانية التي خلقها الله، بل لم تدركوا الموجودات في السماء الدنيا، بل تدركوا الموجودات على ظهر الأرض، بل أنتم لا تدركون حتى حقيقة أنفسكم !! وما دام هذا –ولا تستطيعون الانفلات منه-، فلماذا الادعاء ؟"
وهذا ضعيف فإن خصمه يدعي أن هذا الأمر معلوم بالضرورة، والضروريات لا تفتقر إلى الإستقراء.
قال : "ثم كيف تزعمون بعد هذا أن هذا الكلام ينطبق حتى على الله تعالى، فعجباً منكم، تزعمون أنكم منزِّهون ومتقيدون بالكتاب والسنة، ثم تطلقون هذا الحكم المتهافت هكذا !"
هذا من بطر الحق وغمط الناس كما تقدم معك؛ فإن الإلتزام بالكتاب والسنة هو الذي يوجب هذا الحكم، وقد قدمنا معك بعض الآيات القرآنية الدالة على علو الله جل وعلا على عرشه فوق خلقه، كما قدمنا نقل الإجماع على إثبات الجهة بمعنى العلو والإرتفاع، ونقلنا عن بعض الأئمة القول بالحد والمباينة. وقدمنا عنهم أن نصوص الوحي تمر كما جاءت، فلا يجوز سلبها دلالاتها لأنها جاءت ألفاظ عربية دالة على معاني، ولا يجوز تحريف تلك الدلالات إلى معنى غير ظاهر، لأنه خلاف ما جاءت به. فما الذي يريده أكثر من ذلك.
قال : "ونسألكم: هل أدركتم حقيقة الله تعالى، فعلمتم أنه في جهةِ الفوق ! وأدركتم أنه لا يمكن أن يوجد إلا في جهةٍ ومكان، فأطلقتم هذا الكلام !!"
نقول له: كلا ولكن الله جل وعلا عالم بحقيقة ذاته وأعلمنا أنها بجهة فوق. على أن هذا الإعتراض السخيف جارٍ على كل صفة يثبتها فودة والجهمية من أتباع نحلته، فهل علمتم حقيقة ذات الله حتى تصفوه بالسمع والبصر والكلام والإرادة والقدرة والوجود؟ فما يجيب به هو جوابنا عليه. "فماذا بقي لكم من دلالة العقول ؟"
أقول: لو لم يبقَ لنا سوى معرفة الضروريات والبديهيات لكفانا في إثبات الفوقية والخروج عن العالم، وقد تقدم عن الأئمة أنها مسألة بديهية ضرورية.
"هل تقولون: إنكم أدركتم هذا بالقياس العقلي، فتقولون: كل الموجودات التي نراها تكون في جهةٍ ومكان، والله موجود، فيجب كونه في جهةٍ ومكان ؟!!"
نقول: القياس العقلي في صفات الله جل وعلا متروك لكم، أما نحن فنرى حرمة ذلك إذ لا مدخل للعقل في إثبات ما لم يتكلم به الله جل وعلا في كتبه وعلى ألسنة رسله إلا بمقدار ما توجبه الضرورة ، على أنه ليس في الضروريات أمر استقلت به ليس له ذكر في نصوص الوحي.
قال : "فنقول لكم: هذا الكلام لا ينطبق إلا على ما شهدتموه من الأجسام، فأنتم قد رأيتم حولكم أجساماً كثيرة، كل منها في جهة من الآخر، فتصورتم الله جسماً، فقلتم: هو أيضاً في جهةٍ ومكان، وإلا فإننا ندرك وجود بعض الموجودات وليس واحدٌ منها في جهةٍ من الآخر، فيصبح قولكم: كل موجود يجب أن يكون في جهةٍ باطلاً"
نقول: إعلم أننا لسنا كأتباعك الذين يتخذوك رباً من دون الله، فلا نقبل منك مجرد دعواك علينا، ونعلم من أنفسنا أنا لم نقل ذلك بمشاهدة الأجسام من حولنا، بل بإخبار الله جل وعلا لنا، وبما غرسه الله جل وعلا فينا من العلوم الضرورية القاضية بأنه إن لم تكن ذاته مخالطة لذواتنا، فهي مفارقة لها.
فدع التهويل.
ثم أورد أمثلة تثبت بزعمه أن الكون في غير جهة ممكن في الشاهد فقال :
[أمثلة تبطل لزوم اتصال الموجود بكونه داخل أو خارج]
وها نحن نضرب لكم بعض الأمثلة التي لا تستطيعون الانفكاك منها، فنقول: 1- الشعور بالحب والكراهية موجود لا شك فيه، فإذا أحب الإنسان فإن الحُبَّ يوجد فيه، وإذا كره فإن الكراهية توجد فيه، ويمكن أن يحب الإنسان شخصاً أو أمراً ويكره أمراً آخر، فيوجد فيه في هذه الحال الحب والكراهية معاً.
والإنسان يؤمن بوجود الحب والكراهية في ذاته ويجزم به، من دون حاجته منه إلى تصور جهةٍ تحلُّ فيها هذه الكراهية أو الحب، فأين حبك أيها الإنسان من كرهك، هل هما في جهةٍ من بعضهما ؟
فإذا جزمنا بوجود هذه الأمور من دون الحاجة إلى تصور جهة تحل فيها، إذن يجوز وجودُ موجودٍ لا في جهة.
2- الإنسان قبل أن يتزوج وينجب لا يكون أباً، فإذا تزوج صار أباً، إذن هو اكتسب وصفاً وجودياً هو الأبوة، إذن الأبوة موجودة، فأين هي جهة الأبوة من الإنسان القائمة به، أو من غيره ؟!
نحن نجزم بوجودها من دون تصور جهةٍ لها.
3- الأعداد: الواحد الاثنان الثلاث إلى آخره، لا شك أن لها وجوداً في عقولنا، لا ينكر هذا إلا جاهلٌ، فأين هي جهة الواحد مثلاً؟ وله يمكن أيها الإنسان أن تشير إلى الواحد بإصبعك أو على الأقل أن تحدد لنا جهته في نفسك. إذا كنت لا تستطيع فلم القول منك بأنه لا بد لكل موجود أن يكون في جهةٍ. 4- كل إنسان يعلم أن العالم موجود، ويعلم أيضاً أن المطر ينزل من السماء، فهذا علمان موجودان، ولا يستطيع إنسان أن يدعي أنهما ليسا موجودين، ما دام هذا فهل يمكن أن يقال: إن المعلومة الأولى في جهةٍ من المعلومة الثانية، تحتها أو فوقها إلى غير ذلك من الجهات ؟ الذي يدعي هذا يعلم من نفسه أنه مغالط. إذن: فقد تحقق لنا وجودُ موجدين ليس كلٌ منهما في جهةٍ من الآخر، وأنتم ادعيتم أن كل موجودين فلا بُدَّ من كون كل منهما في جهةٍ من الآخر، فظهر لكم فساد قولكم وتهافته. فلماذا إذن تكابرون وتدعون أن كلامكم هذا معلوم بضرورة العقل ؟ وقد ظهر لكل عاقل أنه معلوم بطلانه بضرورة العقل. أقول: يكفي في إبطال الجميع بيان أن الكلام مفروض في القائم بذاته وجميع الأمثلة إنما هي في القائم بغيره فهي خارجة عن محل النزاع، بيانه أنهم قسموا الموجودات إلى جوهر وعرض، والجوهر عندهم قائم بذاته والعرض قائم بالجوهر، ويمتنع عندهم في العرض قيامه بذاته أو استغنائه عن الجوهر وقيامه لا في محل ، وفوق ذلك هو لا يخلو عن المخالطة بمعنى كونه في حقيقته كائن في مخلوق أو في جسم، وجميع ذلك يخالف اعتقادهم في الله جل وعلا ، إذ هو قائم بنفسه لا في محل مستغنٍ عن غيره غير مخالط لشيء من خلقه لا جسم ولا عرض. فكيف قاس الله جل وعلا على العرض؟
هذا قاضٍ على عامة ما ذكره سوى الأعداد فإن زعمه أنها موجودات إن أراد به المعدودات أنفسها باعتبار الكمية كالرجل والرجلين والثلاثة ، فهؤلاء متحيزون لكل واحدٍ منهم جهة من الآخر، وإن أراد الأعداد المجردة فلا وجود لها أصلاً لا بصفتها جوهر ولا عرض ، بل العدد المجرد ذهني فقط لا يتصف بالوجود الخارجي.
ثانياً : قد قال بعض المتكلمين بتحيز العرض في الجوهر فيكون بعضها في جهة من بعض كالحب والكراهة والعلوم المختلفة والأبوة والبنوة وغيرها غير أنا لا نعْلم جهة أحدها من الآخر فقط ولا نسعى إلى تحصيل العلم بذلك. وقد تقدم معك في كلام الألوسي رحمه الله أن الضرورة مدعاة في الموجود خارج الذهن القائم بنفسه. وانتبه بعد هذا كله –أيها القارئ- أن حكمهم بالجهة والمكان وغير ذلك هو داخل في قسم التصورات من أقسام العلوم، خصوصاً أنهم يشيرون إليه بالأصابع، فيلزم على هذا أنهم يدعون أنهم يتصورون حقيقة صفة من صفاته على الأقل، وهذا معلومٌ بطلانه لدى كل مسلم. أقول: هذا الأحمق يظن أن نفس الجهة والمكان عندنا صفة من صفات الله جل وعلا . فإن قال : أردت العلو، وهو عندي يستلزم الجهة والمكان. قلنا : اللازم الذي هو الجهة والمكان ـ على فرض تسليمه بالمعنى الذي ذكرتَه سابقاً ـ ليس هو الصفة بل ملزومها، فتصورهما ليس هو تصور الصفة. على أن نفي تصور الصفة مطلقاً يستلزم الجهل بالصفات جميعاً جهلاً مطلقاً فلا نعلم حينئذٍ معنى الموجود الحي القادر المريد المتكلم السميع البصير، وهي صفات يقر بها الأشعرية ويزعمون أن العقل دل على ثبوتها، فكيف تراه دل عليها مع عدم تصوره لها أصلاً ؟ فإن قيل: إن العقل يدرك قدراً مشتركاً إجمالياً ولا يدرك حقيقة ما ختص الله جل وعلا به. قلنا : كذلك الأمر في علوه جل وعلا.
أم تقولون: الله تعالى قائم بنفسه، وكل قائم بنفسه في مكان وجهة. فنقول: معنى القيام بالنفس هل هو مشترك بين الله والأجسام حتى يجوز لكم هذا القياس ؟ إن قلتم: نعم، فأنتم مشبهة، وإلا فلم تكابرون وتقولون: الله تعالى في مكان وجهةٍ، وقد أقررتم سابقاً أن المكان والجهة مخلوقان ؟!
اعلم علمنا الله وإياك أنا لا نرد عليه لعلمه ، بل لأن له أتباع يسمونه بالعلامة النظار، وإلا فالحماقات التي يتفوه بها ويسطرها قلمه يترفع عنها من تصور شيئاً بسيطاً من علوم الكلام والمنطق ، وإلا كيف ساغ له أن يسوق هذا السؤال سياقاً إنكارياً؟ ترى لو سألناه سؤاله هذا نفسه فقلنا له : معنى القيام بالنفس هل هو مشترك بين الله والأجسام أم لا؟ بماذا يجيب؟ إن قال : نعم . وافق. وإن قال : لا. خالف العقلاء. وإن قال : أُثبت قدراً مشتركاً إلا أني لا اجعل اللازم في الأجسام لازم في الباري جل وعلا. قلنا : إنما يصح هذا فيما يلزم الجسم من حيث هو جسم لا من حيث هو قائم بنفسه؛ لأن القيام بالنفس أمر مشترك بين القديم والحادث ما لم يكن عرضاً فيما يلزم من القيام بالنفس يعم الجميع. أليس الحي من حيث هو حي قابل للاتصاف بالسمع والبصر؟ وهو مشترك بين الممكن والحادث. أليس لو قال قائل : إني لا أجعل اللازم من الحياة في المخلوق لازماً في الخالق، إن أراد ما يلزم عن المخلوق من حيث هو حي فقط يكون أحمقاً مغفلا والسكوت أستر له ؟ وإن قال : إنما أنفي اللازم من قيام الجسم بنفسه من حيث هو جسم لا من حيث هو قائم بنفسه. قلنا: فإنا ندعي الضرورة بأن الموجود القائم بنفسه إما أن يكون داخل العالم أو خارجه من حيث هو قائم بنفسه لا من حيث هو جسم. يدل عليه أنا نقول بأن الروح قائمة بنفسها وتدخل وتخرج في الأجسام وليست بجسم أصلاً ، وما يدعيه بعضهم من كون الروح ليست داخل العالم ولا خارجه إلى آخر هرائهم لا نسلمه وندعي حصول الضرورة فيه أيضاً مع ما دلت عليه النصوص الشرعية من دخولها وخروجها وصعودها ونزولها وغير ذلك. بل نقول : إنه ضروري في الموجود من حيث هو موجود حتى في العرض، فإنه إن جاز أن لا يحايث غيره من الأعراض فهو محايث للأجسام باعتبارين والأعراض باعتبار لا محالة. فإنا نقول هو إما في الجسم أو خارجه لا يجوز أمر ثالث، وهو باعتبار الجسم الذي يقوم به ملابس مخالط له ، وباعتبار الأجسام الذي ليس هو فيها فهو مفارق لها فإن كان ثمة جسمين أبيض متيامن وأسود متياسر فإن بياض المتيامين يمين الجسم المتياسر وسواد المتياسر يسار الجسم الأبيض المتيامن، فهو محايث بالتبع لما يقوم فيه لا استقلالاً. وبهذا الاعتبار يكون العرض محايث للعرض أيضاً فإن البياض هنا يمين السواد والسواد يسار البياض باعتبار ما قاما به بالتبع. بل نزعم كما قاله بعض المعتزلة أن الأعراض تتحايث في الجوهر الواحد غايته أنا لا ندرك تحايثها وكيفيته، لكن لا يجوز أن يكون أحد العرضين لا مخالطاً لغيره ولا مفارقاً له لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه. بهذا أكتفي ، فإن أشكل عليك باقي كلامه فيكفي أن تطالب في كل دعوى منها بدليلها كقوله : (والجهة ليست من هذا القبيل، فهي كمالٌ بشرط كون المتصف بها جسماً كثيفاً كسائر الأجسام التي نلاحظها. وأما الجهة بالنظر لذاتها فهي صفة نقص، لأنها قيدٌ في أصل الوجود) فتقول : من أين جاء بأن خصمه يجعل الجهة صفة ؟ ما دليله على أنها نقص ؟ ما دليل تقييد حصول الكمال بكون المتصف بالجهة جسماً كثيفاً. وهكذا ، فإن عامة ما يذكره دعاوي محضة لا يدلل عليها . ثم يقول : (ولا نريد أن نتعمق لكم بالأنظار العقلية، لكي لا تنقطع متابعتكم لنا في هذا الكلام؛ لأننا ندرك أنكم غير غواصين في هذا المجال، ولكن إجراؤنا للكلام معكم على وفاق ما طلبه الله تعالى من المؤمنين بالمجادلة بالتي هي أحسن، وعلى سبيل النصيحة لكم في الدين الذي تنتسبون إليه) فنقول : إن البغاث بأرضه يستنسر
هذا والله سبحانه أعلى وأعلم
رد مع اقتباس | |
|